أركان وشروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المقدمة
الحمد لله رب العالمين أحمده وأستعينه وأستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما ًكثيرا.
قال تعالى: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مّسلمون﴾[آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم مّن نّفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرا ونساء واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به والأرحام إنّ اللّه كان عليكم رقيبا﴾[النساء: 1]، وقال: ﴿يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولا سديدا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾[الأحزاب: 70-71].
أما بعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الجهاد الدائم الذي يقوم به المسلم، وهو أصل مهم من أصول قيام حضارة الإسلام إذ لا قيام لشريعة الإسلام بدونه، وهو قطب الدين الأعظم، والمهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ودليل كمال الإيمان وحسن الإسلام، وهو سر أفضلية هذه الأمة؛ لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾[آل عمران: 110]، وصمام أمن الحياة، وضمان سعادة الفرد والمجتمع، يثبت معاني الخير والصلاح في الأمة، ويزيل عوامل الشر والفساد من حياتها، ويقضي عليها أولاً بأول؛ حتى تسلم الأمة وتسعد، ويهيأ الجو الصالح الذي تنمو فيه الآداب والفضائل، وتختفي فيه المنكرات والرذائل، ويتربى في ظله الضمير العفيف، والوجدان اليقظ، ويتكون الرأي العام المسلم الحر الذي يحرس آداب الأمة وفضائلها، وأخلاقها وحقوقها، ويجعل لها شخصية وسلطاناً هو أقوى من القوة، وأنفذ من القانون، ويبعث الإحساس بمعنى الأخوة والتكافل والتعاون على البر والتقوى، واهتمام المسلمين بعضهم ببعض، وهو سبب النصر والتمكين في الدنيا، وسبب النجاة في الدنيا والآخرة (1)، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد (2)، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل في الدين، وعمدة من عمد المسلمين، وخلافة رب العالمين، والمقصود الأكبر من فائدة بعث النبيين، وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة والأمن (3)، ولما كان كذلك وهيأ الله تعالى قيام الندوة السابعة لتقوية الإيمان وزيادته -التي تتبناها جامعة الإيمان- بالعناية بهذا الموضوع المهم أحببت المشاركة فيها، ومحور هذا البحث هو الأركان والشروط والضوابط، والذي أقوم بتقسيمه إلى فصل تمهيدي، ومبحثين:
الفصل التمهيدي وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الفرع الثاني: الشريعة الإسلامية هي الأصل في تقرير المعروف والمنكر
الفرع الثالث: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المبحث الأول: ضابط الآمر والمأمور والمعروف والمنكر، وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وفيه الركن الأول وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وشروطه، وفيه :
الشرط الأول: الإسلام
الشرط الثاني: التكليف
الشرط الثالث: العدالة
الشرط الرابع: إذن الإمام والولي
الشرط الخامس: القدرة
الشرط السادس: العلم
المطلب الثاني: وفيه الركن الثاني وهو المأمور والمنهي (المحتسب عليه) وشروطه، وفيه:
الشرط الأول: أن يكون المأمور والمنهي إنساناً
الشرط الثاني: أن يكون ملابساً لمفسدة واجبة الدافع، أو تاركاً لمصلحة واجبة الحصول
الشرط الثالث: أن يكون الفعل الصادر منه فعلاً منكراً في الشرع
ويتعلق بهذا الركن ما يلي:
أولاً: الاحتساب على غير المكلف كالصبي والمجنون
ثانياً: الاحتساب على الوالدين
ثالثاً: احتساب التلميذ على الشيخ والزوجة على زوجها والتابع على المتبوع
رابعاً: الاحتساب على أهل الذمة
المطلب الثالث: المعروف المأمور به والمنكر المغير (المحتسب فيه) وشروطه، وفيه:
الشرط الأول: أن يكون الفعل المراد تغييره منكراً
الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس
الشرط الرابع: أن يكون المنكر متفقاً على تحريمه بغير خلاف معتبر
المبحث الثاني: ضابط الصيغة وهي نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التغيير باليد وضوابطه، وفيه:
أولاً: درجات تغيير المنكر باليد:
الدرجة الأولى: إتلاف أدوات المنكر
الدرجة الثانية: التغيير بالضرب باليد والرجل وبما دون إشهار السلاح
الدرجة الثالثة: التغيير باليد بإشهار السلاح واستخدامه
الدرجة الرابعة: طلب الأعوان
ثانياً: الخروج على الحكام
المطلب الثاني: التغيير باللسان والقلب وضوابطهما، وفيه:
أولاً: درجات تغيير المنكر باليد
الدرجة الأولى: التعريف
الدرجة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله
الدرجة الثالثة: التعنيف بالقول الغليظ الخشن
الدرجة الرابعة: التهديد والتخويف
ثانياً: التغيير بالقلب وضوابطه
ثالثاً: الهجر الشرعي
المطلب الثالث: أحكام وضوابط أخرى، وفيه:
أولاً: حكم التجاوز والتعدي في تغيير المنكر
ثانياً: حكم أخذ الأجرة على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثالثاً: التثبت في الأمور وعدم العجلة
رابعاً: البدء بالأهم فالمهم وتقديم الكليات على الجزئيات
خامساً: الغاية لا تبرر الوسيلة
الفصل التمهيدي
الفرع الأول: تعريف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أولاً: الأمر بالمعروف
الأمر: هو ما يطلب به فعل سواء كان الفعل كفاً أم غير كف (4).
المعروف: ضدُّ المُنْكَر، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات، وقيل: هو الإحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه (5).
الأمر بالمعروف: هو الإرشاد إلى المراشد المنجية، وقيل: هو الدلالة على الخير، وقيل: هو الأمر بما يوافق الكتاب والسنة، وقيل: هو إشارة إلى ما يرضي الله تعالى من أفعال العبد وأقواله، وقيل: هو الدعوة إليه والترغيب فيه وتمهيد أسبابه حتى تتوطد أركانه وتتطرق سبله ويعم الخير به (6).
ثانياً: النهي عن المنكر
النهي: ما يطلب به فعل خاص وهو الكف (7).
والمنكر: خلاف المعروف، وهو كل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، وقيل: المنكر كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه أو تتوقف في استقباحه واستحسانه العقول فتحكم بقبحه الشريعة، وقيل: إنه الكفر بالله تعالى، وقيل: المنكر ما لا يعرف في شريعة ولا سنة (8).
النهي عن المنكر: هو الزجر عما لا يلائم في الشريعة، وقيل: هو المنع عن الشر، وقيل: هو النهي عما تميل إليه النفس والشهوة، وقيل: هو تقبيح ما تنفر عنه الشريعة والعفة وهو ما لا يجوز في دين الله تعالى، وقيل: النهي عن المنكر يعني الصد عنه، والتنفير منه ومقاومته، وأخذ السبل عليه حتى لا يقع أصلاً أو يتكرر (9).
الفرع الثاني: الشريعة الإسلامية هي الأصل في تقرير المعروف والمنكر
إن الميزان في كون الشيء معروفاً أو منكراً هو كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسوله الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح لهذه الأمة، وليس ما يتعارف عليه الناس أو يصطلحون عليه مما يخالف الشريعة الإسلامية، فما جاء الأمر به في الكتاب والسنة، أو الندب إليه والحث عليه، أو الثناء على أهله، أو الإخبار بأنه مما يحبه الله تعالى ويرضاه، ويكرم أهله بالثواب العاجل والآجل، فهو من المعروف الذي يؤمر به، وما ورد النهي عنه في الكتاب والسنة، والتحذير منه، وبيان عظيم ضرره، وكبير خطره في الدنيا والآخرة، أو جاء ذم أهله ووعيد فاعله بالسخط والعذاب والخزي والعار، ودخول النار ونحو ذلك فهو من المنكر الذي ينهى عنه، فالذي تقره الشريعة الإسلامية وتستحسنه وتأمر به يجب أن يكون معروفا، وإذا استقبحت الشريعة الإسلامية أمراً أو نهت عنه أو حكمت عليه بأنه منكر فيجب أن يكون كذلك، يقول ابن أبي جمرة: «يطلق اسم المعروف على ما عرف بأدلة الشرع أنه من أعمال البر سواء جرت به العادة أم لا» (10)، ويقول ابن الأثير في المعروف: «وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس وكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات وهو من الصفات الغالبة أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه» (11)، ويقول في المنكر: «وهو ضد المعروف وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه فهو منكر» (12)، ويقول الإمام الجصاص: «المعروف هو أمر الله… والمنكر هو ما نهى الله عنه» (13)، ويقول شيخ الإسلام: «وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد من أن يأمر وينهى، ويؤمر وينهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله، واذا اتخذ ذلك ديناً كان ديناً مبتدعاً ضالاً باطلاً» (14).
ومن هذا يتبين أن كون الشيء معروفا أو منكرا ليس من شأن الآمر والناهي، وإنما يعود ذلك إلى ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح لهذه الأمة من اعتقاد أو قول أو فعل (15).
الفرع الثالث: حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ودليله الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فأدلته كثيرة ومنها: قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، فقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن﴾ أمر وظاهر الأمر الإيجاب هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصرت الآية الفلاح بهذا العمل، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم:6]، وفعل الأمر ﴿قُوا﴾ يدل على الوجوب، ويتحقق هذا الفعل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما واجبان؛ لأنهما مقدمة من مقدمات الهداية والإنقاذ من النار، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وقوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾[الأعراف:199]، والعرف: هو المعروف (16)، والأمر للوجوب، وإذا كان الأمر بالمعروف واجباً كان النهي عن ضده واجبا.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[النحل:90]، فالآية تشمل الأمر بكل معروف سواء كان واجباً أو مندوبا، والنهي عن كل منكر كان محرماً أو مكروها، وهي بصيغة الأمر الدال على الوجوب.
وقوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات:9]، قال الإمام الجصاص بعد ذكره لهذه الآية وغيرها: «فهذه الآية ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (17).
وقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[المائدة:2] قال الإمام الغزالي: «وهو أمر جزم، ومعنى التعاون: الحث عليه، وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان» (18)، ثم أتبع الأمر بالتهديد بالعذاب الشديد الذي لا يكون إلا لفعل المحرم أو ترك الواجب.
أما السنة النبوية فحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” (19)، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفس محمد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرأ أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم” قال خلف: «تأطرونه تقهرونه» (20)، وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم” (21)، وحديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم” (22)، وحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: “بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم” (23)، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وفرقت من الناس” (24).
أما الإجماع فنقلة النووي، والجصاص، والغزالي (25)، وغيرهم.
ثانياً: هل هذا الوجوب عيني أم كفائي؟
ذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية على الأمة إذا قام به البعض حتى وجد المعروف الواجب وزال المنكر المحرم سقط عن الباقين وأصبح في حقهم سنة، لكن يشترط أن يكونوا ممن تتحق بهم الكفاية، أي: يكفون في إقامة هذه الشريعة والشعيرة، وإلا أثم كل قادر بحسب قدرته من القيام به بنفسه أو المعاونة على القيام به أو أَمر القادرين بذلك (26)، واستدلوا لذلك بقوله تعالى : ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، قالوا: إن من في قوله تعالى: ﴿مِّنكُمْ﴾ للتبعيض، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾[التوبة:122] ، فقالوا: إن التفقه في الدين فرض كفاية؛ لأن الله تعالى طلب خروج طائفة من المؤمنين وليس جميع المؤمنين، وعلى هؤلاء تقع مسئولية الإنذار وليست على عامة الناس، وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾[الحج:41]، إذ عين الله تعالى في هذه الآية للاحتساب من مكنهم في الأرض وهم بعض الناس وليسوا كلهم، ولو بدأ عامة الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يخشى أن يأمروا بالمنكر وينهوا عن المعروف، ويغلظوا في مكان يقتضي اللين ويلينوا في مقام يقتضي الشدة، وبذلك يكون ضرر احتسابهم أكثر من نفعه، ويدل لذلك أيضاً سقوط الاحتساب بقيام بعضهم به عن الآخرين، ولو لم يكن فرضاً على الكفاية ما كان قيام بعضهم به سبب لسقوطه عن الآخرين (27).
وقالت طائفة من أهل العلم هو فرض عين على كل مسلم، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[آل عمران:104]، قالوا: إن من في قوله تعالى ﴿مِّنكُمْ﴾ للتبيين وليست للتبعيض، ومعنى الآية الكريمة: كونوا كلكم أمة تدعون إلى الخير وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وكون (مِّن) للتبيين يدل عليه أن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة في قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[آل عمران:110]، وأنه لا مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ويجب على كل أحد دفع الضرر عن النفس، فإذا ثبت هذا فمعنى هذه الآية: كونوا أمة دعاة إلى الخير آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر (28)، واستدلوا أيضا بقوله تعالى في الآية السابقة: ﴿وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، قالوا: أكدت الآية أن الفلاح مختص بأولئك المتصفين بالصفات المذكورة في الآية، وهي الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحيث إن الحصول على الفلاح واجب عيني لذا يكون الاتصاف بتلك الصفات واجباً عينياً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (29)، وقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾[آل عمران:110]، إذ بين الله تعالى أن من شروط الانتماء إلى هذه الأمة الاتصاف بهذه الثلاث الصفات، وحيث إن الانتماء إلى هذه الأمة واجب عيني يكون الاتصاف بتلك الصفات واجباً عينياً أيضاً؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (30)، وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (31)، وحديث قيس بن أبي حازم قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾[المائدة:105]، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب” (32)، وفي رواية أبي داوود:“ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب”(33).
ثالثاً: الأحوال التي يكون فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين
1- يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على من تعينه الدولة الإسلامية للقيام به (34)
2- إذا كان ترك المعروف واقتراف المنكر في موضع ولا يعرف ذلك إلا رجل واحد تعين عليه (35)، فيغير بقدر استطاعته، أو يبلغ أهل العلم والمسئولين عن وجود هذا المنكر حتى يقوموا بتغييره.
3- إذا كان لا يتمكن من التغيير إلا شخص أو أشخاص معدودون لا تقوم الكفاية إلا بهم، تعين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف (36)، وكما إذا وجد منكر عند الكبراء، من مسئولين أو تجار أو وجهاء أو غيرهم، فيصبح الأمر والنهي حينئذٍ على المستطيع من أصحاب الوجاهة والعلم أمراً وجوباً عينياً (37).
4- إذا احتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جدال واحتجاج ومناقشة كان فرض عين على كل من يصلح لذلك (38).
5- عند كثرة المنكرات وقلة الدعاة وغلبة الجهل يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل واحد بحسب طاقته (39).
6- يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً عينياً على ذوي السلطان الذين استرعاهم الله عز وجل على رعية، كالأمراء ورؤساء الدوائر الحكومية، فإنه يجب عليهم تغيير المنكرات التي تقع تحت سلطتهم وجوباً عينياً؛ فإن الله تعالى إنما شرع الإمامة العُظمى وسائر الولايات دونها؛ لإقامة الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردع الظالمين والفاسقين؛ بإقامة الحدود والتعزيرات التي تمنعهم من التمادي والانهماك فيما هم فيه، فإذا ترك الولاة الأمر والنهي والجهاد؛ طمعاًَ في دنيا، أو خوفاً على منصب أو مكانة، أو محاباةً لبعض الكفار أو الفساق أو المنافقين؛ فالشأن فيهم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات، وإقامة الحدود عليها بمال يأخذه، كان بمنزلة مقدم الحرامية الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة، وبمنزلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ليجمع بين اثنين على فاحشة، وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط التي كانت تدل الفجار على ضيفه التي قال الله تعالى فيها: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الأعراف:83]، وقال تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾[هود:81] فعذب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وهذا لأن هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية، فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك، فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالاً ليجاهد به في سبيل الله فقاتل به المسلمين»(40).
7- عند رؤية المنكر كمن رأى منكراًَ وقدر على إزالته، وعرف أن غيره لا يقدر، فإنه يتعين عليه، فهو مكلف بإزالته بحسب القدرة، ومتى تمكن أن يزيل المنكر أو يخففه تعين ذلك عليه، ولم يجز له تركه، ولو كان غيره أقدر منه، إذا عرف أن هذا المنكر محرم، ولا يجوز له تأخيره حتى يفعل المعصية، فمن رأى رجلا اختطف امرأة للفجور بها، أو صبيا لفعل الفاحشة، فعليه حتماً السعي في تخليصهما، وليس له إرجاء ذلك حتى يأتي غيره، فإن هذا إقرار للمنكر، فقد يفرغ ذلك المختطف من الزنا ونحوه قبل أن يجيء من ينكر عليه، وفي ذلك تمكين للمعاصي والعصاة من نيل المحرمات.
رابعاً: الأحوال التي يحرم فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحالة الأولى: في حق الجاهل بالمعروف والمنكر الذي لا يميز موضوع أحدهما من الآخر فهذا يحرم في حقه، لأنه قد يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف.
الحالة الثانية: أن يؤدي إنكار المنكر إلى منكر أعظم منه مثل أن ينهى عن شرب الخمر فيؤدي نهيه عن ذلك إلى قتل النفس فهذا يحرم في حقه.
الحالة الثالثة: أن يترتب عليه ضرر يصيب غيره من أهله، أو جيرانه في أنفسهم أو حرماتهم (41).
خامساً: الأحوال التي يندب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحالة الأولى: إذا ترك المندوب أو فعل المكروه فإن الاحتساب فيهما مستحب أو مندوب إليه واستثني من هذه الحالة وجوب الأمر بصلاة العيد وإن كانت سنة، لأنها من الشعار الظاهر فيلزم المحتسب الأمر بها وإن لم تكن واجبة، وحملوا كون الأمر فِي المستحب مستحباً على غير المحتسب، وقالوا: إن الإمام إذا أمر بنحو صلاة الاستسقاء أو صومه صار واجبا، ولو أمر به بعض الآحاد لم يصر واجباً.
الحالة الثانية: إذا سقط وجوب الاحتساب، كما إذا خاف على نفسه ويئس من السلامة وأدى الإنكار إلى تلفها، فيستحب له أن يأمر وينهى وأن يصبر لتتوطد أركان الحق، وكما إذا كان المنكر قد انتهى أو متوقعا، فيستحب له أن يعظ وأن يذكر بالله وآلائه ويخوف من حسابه وشديد عذابه، ويدعوهم لطاعته ويطمعهم في رحمته (42).
سادساً: يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكروهاً إذا أدى إلى الوقوع في المكروه.
سابعاً: يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التوقف إذا تساوت المصلحة والمفسدة، لأن تحقيق المصلحة ودرء المفسدة أمر مطلوب في الأمر والنهي، فإذا اجتمعت المصالح والمفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعل ذلك امتثالا لأمر الله تعالى لقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن:16]، وإن تعذر الدرء درئت المفسدة ولو فاتت المصلحة قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾[البقرة:219] فحرم الخمر والميسر لأن مفسدتهما أكبر من نفعهما، وإذا اجتمعت المفاسد المحضة، فإن أمكن درؤها درئت، وإن تعذر درء الجميع درئ الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل، وإن تساوت فقد يتوقف، وقد يتخير، وقد يختلف التساوي والتفاوت (43) .
المبحث الأول: ضابط الآمر والمأمور والمعروف والمنكر، وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:
التمهيد: أركان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة:
الركن الأول: الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
الركن الثاني: المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر وهو المحتسب عليه.
الركن الثالث: المعروف المدعو إليه والمنكر المغير وهو المحتسب فيه.
الركن الرابع: الصيغة وهو نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
المطلب الأول: وفيه الركن الأول وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وشروطه، وفيه :
الشرط الأول: الإسلام الشرط الثاني: التكليف
الشرط الثالث: العدالة الشرط الرابع: إذن الإمام والولي
الشرط الخامس: القدرة الشرط السادس: العلم
المطلب الثاني: وفيه الركن الثاني وهو المأمور والمنهي (المحتسب عليه) وشروطه، وفيه:
الشرط الأول: أن يكون المأمور والمنهي إنساناً
الشرط الثاني: أن يكون ملابساً لمفسدة واجبة الدافع، أو تاركاً لمصلحة واجبة الحصول
الشرط الثالث: وهو أن يكون الفعل الصادر منه فعلاً منكراً في الشرع
ويلحق بهذا الركن من الأحكام ما يلي:
أولاً: الاحتساب على غير المكلف كالصبي والمجنون
ثانياً: الاحتساب على الوالدين
ثالثاً: احتساب التلميذ على الشيخ والزوجة على زوجها والتابع على المتبوع
رابعاً: الاحتساب على أهل الذمة
المطلب الثالث: المعروف المأمور به والمنكر المغير(المحتسب فيه) وشروطه، وفيه:
الشرط الأول: أن يكون الفعل المراد تغييره منكراً
الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس
الشرط الرابع: أن يكون المنكر متفقاً على تحريمه بغير خلاف معتبر
المطلب الأول: وفيه الركن الأول وهو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وشروطه ما يلي:
الشرط الأول: الإسلام
وإنما كان الإسلام من شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة للدين، ولا ينصر الدين من هو جاحد لأصله وهو عدو من أعدائه، لكن لو أن كافراً رأى مسلماً يزني فنهاه عن ذلك لوجب على المسلم قبول ذلك لحق الله تعالى؛ فإن رسول الله قد قال لأبي هريرة رضي الله عنه عندما نصحه الشيطان: “صدقك وهو كذوب”(44)، ولكن لا يجوز تولية الكافر ولاية الحسبة ولا الشرطة ولا نحوها مما فيه سلطة على مسلم (45)؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾[النساء:141].
الشرط الثاني: التكليف
ولا يخفى وجه اشتراطه؛ لأن التكليف أساس الوجوب في الأحكام الشرعية، ويكون التكليف الشرعي بالبلوغ والعقل؛ لحديث: “رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل”(46)، أما غير المكلف فلا يجب عليه ذلك، أما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل، فإذا عقل المعروف وعرف المنكر وطريق التغيير فتبرع به كان منه صحيحاً سائغاً، وله إنكار المنكر، وينال به الثواب، لأنه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات، بل ينبغي تربية الأبناء على ذلك (47)، قال تعالى في وصية لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾[سورة لقمان:17].
الشرط الثالث: العدالة
وقد اختلف أهل العلم فِي اشترطها، فاعتبرها قوم، وقالوا: ليس للفاسق أن يأمر بالمعروف أو ينه عن المنكر، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[البقرة:44]، وقوله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[الصف:3]، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال قلت: من هؤلاء؟ قالوا: خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون”(48)، وفي رواية: “خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون ويقرؤن كتاب الله ولا يعلمون”(49)، وهداية الغير فرع للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره! ومتى يستقيم الظل والعود اعوج!
وقال جمهور العلماء: لا تشترط العدالة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستدل أصحاب هذا الرأي بأن لشارب الخمر أن يجاهد في سبيل الله، وكذلك ظالم اليتيم، ولم يمنعوا من ذلك لا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده، والأدلة تشمل البر والفاجر، وأن ترْك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها، فمن ترك الصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المنكر، فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه، وردوا على الفريق الأول: بأن الواجب على المكلف شيئان: الأول: أن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر، والثاني: أن يأمر غيره بالمعروف وينهاه عن المنكر، ولا يلزم من تركه لأحد هذين الواجبين سقوط الآخر، فلا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه، وردوا بأن العدالة محصورة في قلة من الناس بينما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في الجميع، وبأن اشتراط العدالة في الآمر والناهي يعني اشتراط أن يكون معصوماً عن المعاصي كلها، وشرط ذلك خرق للإجماع، وغلق لباب الاحتساب؛ إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم، وردوا على استدلالهم بالآيات بأن الذم إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا على نهيه عن المنكر(50).
والمترجح هو القول الثاني القائل بعدم اشتراط العدالة في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؛ لأن الآيات التي استدل بها المشترطون لها لا تدل على اشتراطها بل تدل على قبح وشنيع فعلهم وتحذر منه؛ إذ كيف يحذر من المنكر وخطره ثم يأتيه بعد التحذير منه والمعرفة بتحريمه وخطره، ولأنه إذا ترك التغيير للمنكر فإنه يكون آثماً من جهتين: من جهة فعله للمنكر، ومن جهة عدم نهيه عنه، وقد بينت السنة النبوية أن الذم والعذاب سببه فعل المنكر وترك المعروف لا نفس الأمر والنهي، فعن أسامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلانا ما شأنك؟ أليس كنت تأمرننا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه”(51)، ولأن القول باشتراطها يفضي إلى تقليل دائرة الإنكار وتحجيمها، إذ قد يرى المنكر فاسق أو فساق ليس فيهم عدل، فهل يتركون الإنكار إلى أن يأتي عدل أو عدول.
ملاحظة: عدم اشتراط جمهور الفقهاء تحقق العدالة في المحتسب إذا كان متطوعاً غير صاحب ولاية، واشترطوها في صاحب الولاية إلا عند الضرورة؛ لأن ولاية الحسبة من أشرف الولايات في الإسلام قدراً، وأعظمها في هذه الملة مكانة وفخراً، فلا بد أن يكون متوليها متوفرة فيه شروط الولاية، فلا يصح أن يليها إلا من طالت يده في الكمالات وبرز في الخير وأحرز أوصافه المرضية، ولا تنعقد لمن لم تتوفر فيه الشروط؛ لأن من شرف منزلة من تولاها أن يحتسب على أئمة المساجد وعلى قضاة المسلمين، ولأن سبيل عقد الولاية الشرعية أنه لا يصح لمن قام بها وصف فسق وفقد عدالة، إذ العدالة مشترطة في سائر الولايات الشرعية كالإمامة، وأدار المحققون من العلماء -كابن عبد السلام وابن تيمية- حكمها على رعاية المصلحة ودفع المفسدة، ورفع المشقة، وأورد العز بن عبد السلام قاعدة عامة في تعذر العدالة في الولايات سواء أكانت عامة أم خاصة هي (تولية أقلهم فسوقاً)، ولابن تيمية أنه يستعمل الأصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه (52).
الشرط الرابع: إذن الإمام والوالي
فقد شرط قوم من أهل العلم أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإذن الإمام والوالي، وعليه لا يثبت لأحد من الناس الأمر والنهي بدون إذن؛ لأن في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية، واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً، فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر.
وذهب جمهور فقهاء المذاهب إلى عدم اشتراط إذن الإمام وولي الأمر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وردوا على الفريق الأول: بأن الآيات والأخبار الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدل على أن كل من رأى منكراً فسكت عليه عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له، وبأن القياس على الكافر غير صحيح؛ لأن الكافر ممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، ولا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهل ومقدم على المنكر لا يحتاج إلى الإذن، وبأن الحسبة لها خمس مراتب: التعريف، والوعظ بالكلام اللطيف، والتعنيف كأن يقول: يا جاهل يا أحمق ألا تخاف الله، والمنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي وإراقة الخمر، والتخويف والتهديد بالضرب وقد يحتاج في المرتبة الأخيرة إلى إذن ولي الأمر لما قد يجر ذلك إلى فتنة، وسائر المراتب لا تحتاج إليه، وبأن السلف كان من عادتهم الإنكار على الأئمة، ولو كان إذنهم شرط لما احتسب عليهم، مع ضرورة الاحتساب عليهم، مع ما في اشتراط إذن الولاة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعطيل حقيقي لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمترجح هو القول الثاني؛ لما ذُكر خصوصاً في مثل هذه الأزمان (53).
الشرط الخامس: القدرة
المقصود بها التمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان، أما الإنكار القلبي فهو متعين على كل مسلم، ولا يعذر أحد بتركه، فلا يشترط له القدرة بل لا يتصور ذلك بحال، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان” (54)، ويرد مصطلح الاستطاعة للتعبير عن القدرة فلا فرق بينهما، فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز (55).
والقدرة: انتفاء العجز الذي هو ضدها، والعجز: هو القصور عن فعل الشيء (56).
وللعجز الذي يتحقق به عدم القدرة ووجود العذر المسقط لوجوب التغيير صور ذكرها أهل العلم:
الصورة الأولى: العجز الحسي: الذي يقصد به العجز الحقيقي المتحقق وجوده، كالمرض والضرر المتحقق وجوده فعلاً، وهذا العجز يسقط الوجوب؛ لأنه مانع من القدرة على الفعل حقيقة وفي الحال.
الصورة الثانية: العجز الحكمي: وهو ما كان في معنى العجز الحسي من حيث الخوف من وجود المانع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوقع وجوده حال القيام بهما، وله صور متعددة، ومنها:
الصورة الأولى: أن لا يأمن الآمر بالمعروف أو الناهي عن المنكر الضرر على نفسه وماله وما شابههما، فمن أمن الضرر كان له حكم القدرة، ومن لم يأمن اعتبر عاجزاً عجزاً يسقط عنه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال ابن رجب: «ومع هذا متى خاف على نفسه السيف أو السوط أو الحبس أو القيد أو النفي أو أخذ المال أو نحو ذلك من الأذى سقط أمرهم ونهيهم، وقد نص الأئمة على ذلك منهم مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم» (57).
وأدلة الجمهور هي أدلة اعتبار الإكراه كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾[النحل:106]، وحديث: “إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”(58)، وحديث: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”(59)، وقال عمر رضي الله عنه: «ليس الرجل بأمين على نفسه إذا سجن أو أوثق أو عذب»(60).
وذهبت طائفة إلى أنه يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل حال وإن قتل المنكِر ونيل منه، ورد الجمهور عليهم بأنه غلو مخالف لظاهر الحديث، وبأنه لا حجة لهم في حديث: “يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول الله تعالى: ما منعك إذا رأيت كذا وكذا أن تنكره فيقول رب خشيت الناس فيقول الله تعالى إياي كنت أحق أن تخشى”(61)؛ لأن المراد بالخشية فيه مجرد الخوف مع القدرة إذ لو وجب الإنكار مطلقاً لم يتأت قوله: “فإن لم يستطع”، وإذا جاز التلفظ بالكفر عند الخوف والإكراه كما في الآية كان جواز ترك الإنكار بالأولى؛ لأن الترك دون الفعل في القبح.
* ومع كون الخوف على تلف النفس أو المال عذرا يبيح له ترك التغيير مع الإنكار بقلبه ولا يعين على المنكر بقول ولا فعل، ولكنه في هذه الحالة لو علم أنه إذ غير المنكر يصاب بمكروه ويبطل المنكر بفعله فإنه يجوز له ذلك بل استحبه جماعة من أهل العلم؛ لما فيه من نصرة للدين وإظهار لشعائره، ولكن بشرط أن يقتصر المكروه عليه ولا يتعدى الضرر لغيره، فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم؛ لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضي ذلك إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء (62).
* والخوف من الضرر يكون إما بالعلم اليقيني بوجوده، أو بالظن الغالب بتحقق الضرر مع الأمر والنهي، أما مجرد الوهم بالضرر أو احتمال وقوعه أو إمكانه فلا يزيل الوجوب كمن يقال له لا تنكر على فلان فإنه سيقتلك فإن هذا وهم (63)، قال ابن مفلح: «وإن الأمر بالمعروف لا يسقط فرضه بالتوهم فلو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك لم يسقط عنه لذلك»(64)، وقال الغزالي: «فإن قيل فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه؟ قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب، ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً وهذا هو الأظهر، ويحتمل أن يقال إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح؛ نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف»(65).
مقدار الضرر المسقط للوجوب
أما مقدار الضرر المسقط للوجوب فهو الإيذاء المادي المباشر على النفس أو المال، أما النفس فيكون بالضرب وما يصاحبه من ألم وأذى، ويكون بالقطع والجرح والقتل، وأما المال فيكون بالنهب والسلب والتخريب(66)، قال الإمام الغزالي: «وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة، وإن كان يستحب له ذلك كما سبق، وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر، وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه فهذا أيضاً يسقط عنه الوجوب»(67).
أما الإيذاء المعنوي كالسب والشتم واللوم فليس بعذر مسقط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الإمام الغزالي: «ولو تُركت الحسبة بلوم لائم، أو باغتياب فاسق أو شتمه وتعنيفه، أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله، لم يكن للحسبة وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه، إلا إذا كان المنكر هو الغيبة، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب، ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة، فتحرم هذه الحسبة؛ لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب عليه الحسبة؛ لأن غيبته أيضاً معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدي عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار»(68).
الصورة الثانية: أن لا يأمن حصول منكر أعظم من ذلك الذي يريد أن يغيره؛ لأن قصد الشارع هو إزالة المنكر الحاصل لا إيجاد منكر أكبر منه، وذلك تحملاً لأيسر الضررين، وعليه لو ترتب على تغيير المنكر حصول منكر أشد منه سقط التغيير، ولم يكن مشروعا، وإن كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات، فالواجبات والمستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة(69).
فلابد من مراعاة المصالح والمفاسد، قال ابن القيم: «فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده، والثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته، والثالثة: أن يخلفه ما هو مثله، والرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه، فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة، فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى وهذا باب واسع، وسمعت شيخ الإسلام بن تيمية -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم»(70).
وقال وقد ذكر شروط الإنكار: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله… ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنَعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر»(71).
الصورة الثالثة: العلم بعدم فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك لا يجدي في التغيير، وهذا محل خلاف بين العلماء، فذهب جماعة إلى اعتبار ذلك من صور العجز المسقط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الغاية من الأمر والنهي حصول المقصود منه الذي هو التغيير للمنكر والإزالة له، وهذا المقصود إذا علم عدم تحققه وحصوله فلا فائدة من الأمر والنهي ولا معنى له فيسقط بذلك الوجوب، مع استحباب الأمر والنهي؛ لإظهار شعائر الإسلام والتذكير، قال العدوي: «وشرط الوجوب أن يعلم أو يغلب على ظنه الإفادة وإلا سقط الوجوب وبقي الجواز أو الندب»(72)، واحتجوا بقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾[الأعلى:9] فمفهوما أنها إذا لم تنفع لم يجب التذكير، وهو مفهوم شرط، وجمهور أهل العلم يقولون به، والأصل عدم تقدير محذوف.
وقالت طائفة أخرى من أهل العلم: لا يعتبر العلم أو غلبة الظن بعدم فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً وعجزاً لسقوط وجوب الأمر والنهي؛ لأن الأمر والنهي في مثل هذه الحالة يكون من باب الذكرى للمؤمنين، ولو كان من شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حصول التغيير لما كان الإنكار القلبي واجباً ومتعيناً على كل مسلم، مع العلم بأن الإنكار القلبي لا يفيد في تغيير المنكر، ولأن الغاية الأولى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي أرضاء الله تعالى والإعذار إليه بالقيام بالواجب من دون تقصير، سواء كانت النتيجة ملموسة والفائدة متحققة من الأمر والنهي أم لا كما قال تعالى: ﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[الأعراف:164]، ولأن النتائج لا تطلب دائماً من الآمر والنهي وإنما هي بقدرة الله تعالى وأمره ورحمته في تقدير الأمور وتيسيرها، والمطلوب من الداعية التبليغ دون انتظار للنتائج كما قال تعالى: ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾[النحل:82]، ولأن القول بسقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم فائدته قد يؤدي إلى التراخي عن القيام بهذا الواجب، وبالتالي السكوت عن المنكر وشيوعه واعتياد الناس له، ولكل هذا أثره السلبي الكبير والخطير في انتشار المنكرات واعتيادها، لذلك فإن مجرد النهي عن المنكر ولو لم يؤدِ إلى تغييره يبقى يعرف الناس بعدم مشروعيته، وأنه مخالف للشرع، وبالتالي لا يأخذ المشروعية مع تكرر الفعل ومرور الوقت(73).
ويرى البعض أن الحسبة واجبة مع ظن التأثير والنفع، ومع عدمه إذا كانت فيه مصلحة أخرى كانتفاع غير المحتسب أو إظهار شعائر الإسلام أو الأثر والنفع آجلاً لا عاجلاً، فإن عدم ذلك سقط الوجوب وعليه تُحمل الأحاديث الواردة في ترك الأمر والنهي ونحوها مما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾[ المائدة:105]، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: “حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك العوام..”(74)، والهداية لا تتم للعبد إلا بأداء الواجبات ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تجب العزلة إذا لم يمكن للإنسان حفظ دينه والنجاة من الفتن إلا بالعزلة كأن لا يجد على الخير أعواناً وخشي على نفسه الوقوع في الفتن أو حصول الأذى الذي لا يصبر عليه، مع التنبيه على أن ذلك أمر مخصوص في أحوال مخصوصة وليس عاماً في الأرض كلها في أي زمن(75)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك”(76).
الشرط السادس: العلم
قال النووي: «ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه»(77)، وللعلماء أقوال في ضابط العلم المشروط للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:
القول الأول: يجب أن يكون المحتسب عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين؛ ليجتهد رأيه فيما اختلف فيه، وعليه فالتكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مختص بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم بالخير وبالمعروف وبالمنكر، فإن الجاهل ربما دعا إلى الباطل وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً فثبت أن هذا التكليف متوجه إلى العلماء(78).
القول الثاني: التفريق بين قسمين من أقسام العلم:
القسم الأول: العلم الظاهر، وهو العلم بالأحكام والتشريعات الظاهرة المعروفة، كالعلم بفرائض الإسلام الظاهرة من صلاة وصيام وزكاة وحج، وما يتعلق بها من أركان وواجبات معروفة ومعلومة عند جمهور المسلمين، وكذلك العلم بالمنكرات والكبائر المعروفة والمجمع عليها، كالشرك والزنا والربا والقتل والخمر، وقد قرر أهل العلم بأن ذلك من المعلوم من الدين بالضرورة، لذلك يجب الأمر والنهي في كل ذلك، ولا يسقط الوجوب بدعوى الجهل.
القسم الثاني: العلم بدقائق الأفعال والأقوال، كالعلم بفرعيات المسائل ودقائقها التي تخفى على عامة الناس، ولا يعرفها ويطلع عليها إلا العلماء والباحثون، ومسائل الاجتهاد، فكل ذلك يشرط العلم لوجوب الأمر به أو النهي عنه، يقول الشربيني: «ولا يأمر ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالم فليس للعوام ذلك»(79), ويقول النووي: «ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء»(80).
وذكر فقهاء المالكية بأنه لابد أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالماً بالمعروف والمنكر فمن لا معرفة له بهما لا يأمر ولا ينهى، قال النفراوي في شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر فمن لا معرفة له بالمعروف ولا المنكر لا يأمر ولا ينهى»(81)، ويعلل الخرشي ذلك بقوله: «لئلا ينهى عن معروف يعتقد أنه منكر أو يأمر بمنكر يعتقد أنه معروف»(82).
* فالعلم المشترط يشمل العلم بخطاب الشارع أي بأن الشرع أمر بكذا أو نهى عن كذا -والتمكن من هذا العلم شرط في التكليف بالحسبة وغيرها، ويشمل العلم بالواقع لكي لا ينكر ما ليس بمنكر، فمثلاً العلم بأن ما في هذه الكأس خمرة شرط في القيام بالحسبة.
أما الأمر والنهي بناءً على فتوى عالم فكل المسلمين علماء بالمحرمات المشهورة والواجبات الظاهرة كما بينه الإمام النووي، أما ما لم ينتشر العلم به بين المسلمين فالناس فيه على ثلاثة أقسام: العالم المجتهد: الذي حصل مرتبة الاجتهاد وهذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بمقتضى علمه بالشرع وبما يشرع فيه الإنكار، وطالب العلم المميز: الذي يستطيع التمييز بين أقوال العلماء وله نظر في معرفة الأدلة وطرق الاستدلال لكنه لم يحصل مرتبة الاجتهاد -فهذا له الترجيح بين أقوال العلماء وعليه اتباع ما ظهر له فيها الدليل الشرعي وإذا جمع أدلة مسألة مع علمه بطرق الاستدلال والترجيح فهو بها عالم وما لم يجمع أدلته أو عجز عنه من المسائل فهو ملحق فيه بالعوام، والعوام: وهؤلاء عليهم سؤال علمائهم والأخذ بما يفتونهم به، وإذا اختلف على العامي فتاوى العلماء اتبع أوثقهم في نفسه كالأعمى إذا خفيت عليه القبلة واختلفوا عليه قلد أوثقهم وأصدقهم في نفسه، فهذا النوع لا ينكر إلا إذا أفتاه العالم أن هذه المسألة متفق عليها أو أن المخالف فيها مخالف لنص أو إجماع أو قياس جلي ولذا فلا يسوغ خلافه، وإن لم يفته العالم بذلك بل قال له فقط هذا الشيء منكر وهو لا يدري هل هو متفق عليه أو مختلف فيه ونحو ذلك لم يجز له الإنكار ولكن ينصح وينقل ما سمعه من العالم للخروج من الخلاف(83).
المطلب الثاني: وفيه الركن الثاني وهو المأمور والمنهي (المحتسب عليه) وشروطه ما يلي:
الشرط الأول: أن يكون المأمور بالمعروف والمنهي عن المنكر إنساناً، لكن لو رأى البهائم بصور مثيره فله زجرها صيانة للأنظار.
الشرط الثاني: أن يكون ملابساً لمفسدة واجبة الدفع، أو تاركاً لمصلحة واجبة الحصول.
الشرط الثالث: أن يكون الفعل الصادر منه فعلاً منكراً في الشرع، ولا يشترط كونه عاصياً، لهذا لم يشترط كونه مكلفا، قال الغزالي: «الركن الثالث: المحتسب عليه، وشرطه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفا»(84)، ويقول العز: «ولا يشترط في درء المفاسد أن يكون ملابسها أو المتسبب إليها عاصياً، وكذلك لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهي عاصيين، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابساً لمفسدة واجبة الدفع، والآخر تاركاً لمصلحة واجبة التحصيل»(85).
ومن الأحكام المتعلقة بهذا الركن ما يلي:
أولاً: الاحتساب على غير المكلف كالصبي والمجنون
ذهب أهل العلم إلى مشروعية الاحتساب على غير المكلف بالزجر والتأديب، وكذلك ذهبوا إلى أن الصغير أو المجنون ينكر عليه في الزنا والخمر والقتل فيمنع من ذلك(86).
ويرى العز بن عبد السلام جواز ضرب الصبيان على ترك الصلاة والصيام وغيرها من الواجبات ضرباً غير مبرح؛ لأن في ذلك تحصيل مصلحة القيام بالواجبات، وأجاز قتل الصبيان والمجانين في حالة اعتدائهم على الأنفس إذا لم يمكن دفعهم إلا بالقتل(87)، ومنهم من يرى بأن الأمر والنهي على الصغار بالضرب غير المبرح والتأديب أمر مهم، ولا بد منه لتربية الصغار، وتنشئتهم التنشئة الصالحة، أما المجنون فإن أمره ونهيه بالتأديب غير متصور؛ لأنه فاقد للعقل، ولا يفقه الأمور.
وأما الأمر والنهي في حقهما في حال تلبسهما بالمنكرات كالخمر فإنه يجب منعهم من ذلك بالوسائل المانعة دون الإيذاء المباشر لهما؛ لأنهما غير عاصيين لسقوط التكليف عنهما، وإنما ينكر عليهما ويمنعان من المنكر لما فيه من أثر خطير على الحرمات، قال الإمام ابن حجر الهيثمي: « قال الأئمة: ويجب إنكار الصغيرة كالكبيرة بل لو لم يكن الفعل معصية لخصوص الفاعل وجب الإنكار كما لو رأى غير مكلف يزني أو يشرب الخمر فإنه يلزمه منعه من ذلك»(88).
وأما في حالة الاعتداء على الأنفس فإنه يجوز أن يصل المنع إلى القتل إن تعذرت الوسائل الأخرى؛ حفاظاً على النفوس؛ لأن نفسيهما ليست بأولى من باقي النفوس(89).
ثانياً: الاحتساب على الوالدين
ذهب أهل العلم إلى جواز احتساب الولد على والديه؛ لعموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن الأمر والنهي لمنفعة المأمور والمنهي، والأب والأم أحق أن يوصل الولد إليهما المنفعة، ولكنهم خصوا الاحتساب عليهما بمرتبتي التعريف والوعظ والنصح بلين الكلام وطيبه وبرفق وبخفض الجناح لهما(90)، قال الإمام ابن مفلح: «قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يكلمه بغير عنف ولا إساءة ولا يغلظ له في الكلام وإلا تركه؛ ليس الأب كالأجنبي»(91).
أما الإنكار عليهما بغليظ القول أو الضرب فلا يثبت ذلك للولد عليهما، قال الغزالي: «قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه»(92).
أما الإنكار عليهما بما يثير سخطهما، ككسر أدوات المنكر وإراقة الخمر، فقد رأى الغزالي ثبوت ذلك للولد عليهما بل ويلزمه؛ لأن سخط الأب سببه حب الباطل والحرام، ويرى أن الإنكار في هذه الحالة يبنى على درجة قبح المنكر ومقدار السخط، قال الإمام الغزالي: «ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر، وإلى مقدار الأذى والسخط، فإن كان المنكر فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر، وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر»(93).
وذهب آخرون إلى عدم جواز ذلك وهو مذهب الحنفية ونقله القرافي عن مالك وهو أيضاً مذهب أحمد(94)، قال عمر بن محمد بن عوض السنامي: «والسنة في أمر الوالدين بالمعروف أن يأمرهما به مرة فإن قبلا فبها وإن كرها سكت عنهما واشتغل بالدعاء والاستغفار لهما؛ فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمرهما»(95)، وقال في موضع آخر: «يجوز للولد أن يخبر المحتسب بمعصية والديه إذا علم الولد أن الوالدان لا يمتنعان بموعظته»(96)، أما اعتداء الوالدين على النفس فالواجب منعهما دون الوصول إلى حد القتل؛ لأن الحفاظ على نفس الغير مأمور به وإن تسبب في إثارة سخط الوالدين وتعارض مع طاعتهما، بل منعهما في هذه الحالة من البر بهما؛ لما يترتب على الإنكار من إنقاذهما من العذاب المترتب عليها في الدنيا والآخرة(97).
ثالثاً: احتساب التلميذ على الشيخ، والزوجة على زوجها، والتابع على المتبوع
عقد النووي في الأذكار باباً في وعظ الإنسان من هو أجل منه وقال: «اعلم أن هذا الباب مما تتأكد العناية به، فيجب على الإنسان النصيحة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل صغير وكبير إذا لم يغلب على ظنه ترتب مفسدة على وعظه»(98).
وقال في باب ما يقوله التابع للمتبوع إذا فعل ذلك أو نحوه: «اعلم أنه يستحب للتابع إذا رأى من شيخه وغيره ممن يقتدى به شيئا في ظاهره مخالفة للمعروف أن يسأله عنه بنية الاسترشاد, فإن كان قد فعله ناسياً تداركه، وإن كان فعله عامداً وهو صحيح في نفس الأمر بينه له»(99).
وللإمام الغزالي تفصيل فبعد أن قرر كأصل عام أن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه ويعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه قال بسقوط الحسبة على المتعلم إذا لم يجد إلا معلماً واحداً ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره، وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه، ككون العالم مطيعاً له أو مستمعاً لقوله، فالصبر على الجهل محذور، والسكوت على المنكر محذور، ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين، وناط الاحتساب وتركه باجتهاد المحتسب حتى يستفتي فيها قلبه، ويزن أحد المحذورين بالآخر ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع(100).
ومن أهل العلم من ألحق الزوجة بالنسبة لزوجها بالولد بالنسبة لأبيه(101).
رابعاً: الاحتساب على أهل الذمة(102): ذكر أهل العلم لذلك صورتين:
الصورة الأولى: إذا كان الأمر محرماً عندهم غير محرم في الإسلام، ففي هذه الحالة لا ينكر عليهم ولا يتعرض لهم على معصيتهم لدينهم؛ وسواء أظهروا ذلك أم أسروه؛ لأن الهدف والغاية من الإنكار إقامة أمر الإسلام لا أمر دينهم، وهذا غير متحقق هنا.
الصورة الثانية: أن يكون الأمر محرماً عند المسلمين، سواء كان محرماً عندهم أم غير محرم، فما كان فيه ضرر أو غضاضة على المسلمين يمنعون منه وينكر عليهم كنكاح مسلمة والتبايع بالربا في أسواقنا لأنه عائد بفساد نقدنا، وإظهار الأكل في رمضان بين المسلمين، وكإظهار شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير، وأما المنكرات التي لا يقع فيها إيذاء للمسلمين كشرب الخمر فيما بينهم والإتجار بها فيما بينهم، والتعامل بالربا فيما بينهم فلا ينكر عليهم، وينكر عليهم إذا خالفوا الشروط المشروطة عليهم في عقد الذمة(103), فإذا أقاموا مع المسلمين في مصر واحد فإنه يحتسب عليهم في كل ما يحتسب فيه على المسلمين، ولكن لا يتعرض لهم فيما لا يظهرونه في كل ما اعتقدوا حله في دينهم مما لا أذى للمسلمين فيه، ويمنعون من إظهار ما يحرم على المسلمين، وإذا انفردوا في جهة فلا يمنعون من إظهار ذلك، إلا إذا أظهروا شيئا من الفسق في قراهم مما لم يُصَالِحُوا عليه مثل الزنا وإتيان الفواحش منعوا منه؛ لأن هذا ليس بديانة منهم، ولكنه فسق في الديانة فإنهم يعتقدون حرمة ذلك كما يعتقده المسلمون(104).
الركن الثالث: المنكر المغير وهو المحتسب فيه، وشروطه ما يلي:
الشرط الأول: أن يكون منكراً
أي أن يكون الفعل محذوراً في الشرع، وقد استخدم العلماء لفظ المنكر للتعبير عن هذا الشرط عوضاً عن لفظ معصية؛ لأن المنكر أعم وأشمل من المعصية، فكل معصية منكر لا العكس، فالمعصية يترتب اعتبارها معصية على فاعلها بحيث يكون الفعل بحقه محرماً، بينما المنكر يكون منكراً في ذاته دون أن يكون متعلقاً بفاعله، فالمنكر ليس بالضرورة أن يكون معصية، فقد يكون الفعل منكراً ولكنه ليس بمعصية، وذلك إذا قام به من انعدمت أهليته وسقط عنه التكليف كالصغير والمجنون، فهؤلاء لا يكون الفعل بحقهم معصية لكنه يكون منكراً، فلهذا ينكر عليهما إذا فعلا المنكر، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إذا رأى مجنوناً يزني بمجنونة أو ببهيمة فعليه أن يمنعه منه، وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون، إذ معصية لا عاصي بها محال، ولهذا ذكر صاحبا الفروق والقواعد بأنه لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهي عاصيين، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابساً لمفسدة واجبة الدفع، والآخر تاركاً لمصلحة واجبة التحصيل(105)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل الكبائر والصغائر.
الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال
أي لا يزال فاعله متلبساً بالفعل ولم يفرغ منه، فالإنكار يكون لمن لا يزال مزاولاً للفعل المنكر، وفي هذا الشرط احتراز من أمرين:
الأمر الأول: من فرغ من فعل المنكر هل ينكر عليه؟
ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا إنكار فيما فات لآحاد الرعية وإنما يصبح الأمر من مهام السلطان ينكر عليه وصولاً للحدود الشرعية.
وذهب الإمام ابن مفلح الحنبلي إلى جواز الإنكار فيما مضى من المنكر ولكن بشرط أن يبقى فاعله مصراً عليه، فينكر عليه فعله وإصراره وعدم توبته وندمه مستدلاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فقال له مُوسَى: يا آدَمُ أنت أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وَأَخْرَجْتَنَا من الْجَنَّةِ، قال له آدَمُ: يا مُوسَى اصْطَفَاكَ الله بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لك بيده أَتَلُومُنِي على أَمْرٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيَّ قبل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى ثَلَاثًا”(106)، وفي رواية: “احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام عِنْدَ رَبِّهِمَا، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، قال مُوسَى: أنت آدَمُ الذي خَلَقَكَ الله بيده وَنَفَخَ فِيكَ من رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لك مَلَائِكَتَهُ وَأَسْكَنَكَ في جَنَّتِهِ ثُمَّ أَهْبَطْتَ الناس بِخَطِيئَتِكَ إلى الأرض، فقال آدَمُ: أنت مُوسَى الذي اصْطَفَاكَ الله بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ وَأَعْطَاكَ الْأَلْوَاحَ فيها تِبْيَانُ كل شَيْءٍ وَقَرَّبَكَ نَجِيًّا فَبِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قبل أَنْ أُخْلَقَ؟ قال مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قال آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فيها؟ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قال: نعم، قال: أَفَتَلُومُنِي على أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ الله على أَنْ أَعْمَلَهُ قبل أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى”(107)، ثم أورد كلام النووي في الحديث: «ومعنى كلام آدم أنك يا موسى تعلم أن هذا كتب عليَّ قبل أن أخلق، وقدر عليَّ فلابد من وقوعه، ولو حرصت أنا والخلائق أجمعون على رد مثقال ذرة منه لم نقدر، فلم تلومني على ذلك! ولأن اللوم على الذنب شرعي لا عقلي، وإذ تاب الله تعالى على آدم وغفر له زال عنه اللوم، فمن لامه كان محجوجاً بالشرع، فإن قيل فالعاصي منا لو قال هذه المعصية قدرها الله عليَّ لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك وإن كان صادقاً فيما قاله؟ فالجواب: أن هذا العاصي باق في دار التكليف جار عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمت، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف وعن الحاجة إلى الزجر فلم يكن في القول المذكور له فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل»(108)، وأورد كلام ابن تيمية: «فحج آدم موسى لأن موسى قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله لا لأجل كونها ذنباً، ولهذا احتج عليه آدم بالقدر، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مراداً بالحديث؛ لأن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجور لوم التائب باتفاق الناس»(109)، ثم قال معلقاً على كلاميهما: «وهو وكلام غيره يدل على أن الذنب الماضي يلام صاحبه وينكر عليه إذا لم يتب»(110).
الأمر الثاني: الاحتراز من المنكر المتوقع حدوثه، وذلك بأن تظهر أمارات تدل على المنكر المتوقع كظهور استعدادات لمنكر معين، فهل ينكر في هذه الحالة؟
قال أهل العلم: إن المنكر المتوقع مشكوك فيه؛ فربما كان هناك مانع من وقوعه، لذلك يثبت الإنكار في هذه الصورة بالوعظ والنصح فقط، أما التعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان، وإن أنكر المشكوك فيه عزمه على المنكر لم يجز وعظه في المنكر؛ لأن في ذلك إساءة الظن بالمسلم، وربما صدق في قوله، وربما لا يستطيع إتمام ما عزم عليه.
أما إذا كان المنكر المتوقع معلوماً من الشخص بالعادة والمواظبة عليه، وقد أقدم على الأسباب المؤدية إليه، ولم يبق لحصوله إلا الوقت والانتظار، كمن يقف عند باب حمامات النساء للنظر إليهن، فأمثال هؤلاء يعنفون ويضربون؛ لأن وقوفهم مظنة المعصية، ومظنة المعصية ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها، فإذا هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة(111).
ونقل عن الفراء أنه لا يجوز إنكار منكر يظن وقوعه، وقيل: إذا كان توقع المنكر مبني على العلم اليقين أو غلبة الظن بما وجد من القرائن والشواهد الدالة على ذلك، فيمنع من عزم وينكر عليه؛ لأن دفع المنكر قبل وقوعه أولى من الإنكار بعد وقوعه، والدفع أولى وأقوى من الرفع؛ لما قد يترتب على وقوعه من انتهاك للحرمات وربما ذهاب الأنفس والأموال(112).
واستثني من هذا الشرط حالتان:
الحالة الأولى: الإصرار على فعل الحرام من غير إحداث توبة، فهذا يجب الإنكار عليه، وفي رفعه إلى ولي الأمر خلاف مبني على وجوب الستر واستحبابه، وعلى سقوط الذنب بالتوبة وعدمه.
أما عن وجوب الستر واستحبابه فقد ذهب الأحناف إلى أن الشاهد في حقوق الله -أسباب الحدود- مخير بين حسبتين: بين أن يشهد حسبة لله تعالى(113)، وبين أن يستر(114)؛ لأن كل واحد منهما أمر مندوب إليه، وقد ندبه الشرع إلى كل واحد منهما إن شاء اختار جهة الحسبة فأقامها لله تعالى، وإن شاء اختار جهة الستر فيستر على أخيه المسلم، والستر أولى، وأما في حقوق الله تعالى من غير أسباب الحدود نحو طلاق وإعتاق وظهار وإيلاء ونحوها من أسباب الحرمات تلزمه إقامة الشهادة حسبة لله تبارك وتعالى عند الحاجة إلى إقامتها من غير طلب من أحد من العباد.
وقال فقهاء المالكية: تجب المبادرة لأداء الشهادة في حق الله إن استدام فيه التحريم كالعتق والطلاق والرضاع والوقف، وإن كان التحريم ينقضي بالفراغ من متعلقه كالزنى وشرب الخمر كان مخيراً في الرفع وعدمه، والترك أولى لما فيه من معنى الستر المطلوب في غير المجاهر بالفسق، وفي المواق أنَّ ستر الإنسان على نفسه وعلى غيره واجب حينئذ فيكون ترك الرفع واجبا.
وذكر العز بن عبد السلام تفصيلاً خلاصته أن الزواجر نوعان:
أحدها: ما هو زاجر عن الإصرار على ذنب حاضر أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها وهو ما قصد به دفع المفسدة الموجودة ويسقط باندفاعها.
الثاني: ما يقع زاجراً عن مثل ذنب ماض منصرم أو عن مثل مفسدة ماضية منصرمة ولا يسقط إلا بالاستيفاء وهو ضربان:
أحدهما: ما يجب إعلام مستحقه ليبرأ منه أو يستوفيه، وذلك كالقصاص في النفوس والأطراف وكحد القذف، فإنه يلزم من وجب عليه أن يعرف مستحقه ليستوفيه أو يعفو عنه.
الثاني: ما الأولى بالمتسبب إليه ستره كحد الزنا والخمر والسرقة، ثم قال: «وأما الشهود على هذه الجرائم فإن تعلق بها حقوق للعباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرفوا بها أربابها، وإن كانت زواجرها حقاً محضاً لله فإن كانت المصلحة في إقامة الشهادة بها فليشهدوا بها مثل أن يطلعوا من إنسان على تكرر الزنا والسرقة والإدمان على شرب الخمور وإتيان الذكور فالأولى أن يشهدوا عليه؛ دفعاً لهذه المفاسد، وإن كانت المصلحة في الستر عليه مثل زلة من هذه الزلات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثم يقلع عنها ويتوب منها فالأولى أن لا يشهدوا… وجاء في حديث: “أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم”(115)، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: “ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة”(116)»(117).
وذكر ابن مفلح -من الحنابلة- أن عدم الإنكار والتبليغ على الذنب الماضي مبني على سقوط الذنب بالتوبة، فإن اعتقد الشاهد سقوطه لم يرفعه وإلا رفعه، وأما إذا كان مصراً على المحرم لم يتب، فهذا يجب إنكار فعله الماضي وإنكار إصراره(118).
الحالة الثانية: الإنكار على أرباب المذاهب الفاسدة والبدع المضلة، قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في تفصيل ما إلى الأئمة والولاة: «فأما القول في أصل الدين فينقسم إلى حفظ الدين بأقصى الوسع على المؤمنين، ودفع شبهات الزائغين -كما سنقرره إن شاء الله رب العالمين- وعلى دعاء الجاحدين والكافرين إلى التزام الحق المبين»(119).
وذكر الشاطبي أن من أظهر بدعته ودعا إليها فحكمه حكم سائر من تظاهر بمعصية صغيرة أو كبيرة أو دعا إليها يؤدب أو يزجر أو يقتل إن امتنع من فعل واجب أو ترك محرم، ويرى الغزالي أن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها، وينكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، ويرى ابن القيم وجوب إتلاف الكتب المشتملة على البدعة، وأنها أولى بذلك من إتلاف آنية الخمر وآلات اللهو والمعازف، ولأن الحسبة على أهل الأهواء والبدع أهم من الحسبة على كل المنكرات(120).
الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً من غير تجسس
فقد صرح العلماء بأنه لا يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتجسس على الناس لكشف ما خفي من المنكرات لغرض الإنكار، وإنما عليه إنكار المنكرات الظاهرة -وهي المشاهدة من الآمر والناهي أو التي يشهد بوقوعها عدلان- دون الخفية، يقول النفراوي: «أن يكون المنكر ظاهراً بحيث لا يتوقف على تجسس ولا استراق سمع ولا بحث بوجه كتفتيش دار أو ثوبه لحرمة السعي في ذلك»(121)، ويقول الماوردي: «وأما ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يتجسس عنها ولا أن يهتك الأستار حذراً من الاستتار بها»(122)، مستدلين بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾[الحجرات:12]، فالآية الكريمة تنهى عن التجسس، والأصل في النهي التحريم، فيكون التجسس محرماً بنص الآية، ومعنى الآية: خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، ولا تفتشوا عنها(123)، وبأن المسلم مأمور بإجراء أحكام الناس على الظاهر دون البحث والتقصي عن السرائر والأمور الباطنة، ويؤكده قوله تعالى: ﴿فإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ﴾[التوبة:5]، وقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة: “أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا”(124)، واستدلوا أيضاً بحديث عبد الله عن بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رسول اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذلك عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ، وَحِسَابُهُمْ على اللَّهِ”(125)، فالحكم للظاهر، وحديث عبد الله بن عتبة قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ في عَهْدِ رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ الْوَحْيَ قد انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لنا من أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لنا خَيْراً أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا من سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ الله يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لنا سُوءًا لم نَأْمَنْهُ ولم نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قال إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ»(126)، وحديث زيد بن اسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: فوق هذا، فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: بين هذين، فأتي بسوط قد ركب به فلان، فأمر به فجلد، ثم قال: “أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، فمن أصابه من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله؛ فإنه من يبد لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله عز وجل”(127)، فحثه رسول الله على الاستتار وعدم الإظهار، وعليه لا يصح هتك الأستار حذراً من وقوع المعصية في السر بعيداً عن أعين الناس.
- أما حد الظهور والاستتار فقد تناول العلماء صورتين:
الصورة الأولى: أن الاستتار يكون بإغلاق الباب على النفس، فكل من أغلق عليه بابه فهو مستتر لا يجوز التجسس عليه، قال ابن جزيء: «وأن يكون معلوماً بغير تجسس، فكل من ستر على نفسه وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه»(128)، إلا أن بعض الفقهاء شرط مع ذلك أن لا يظهر المنكر داخل البيت ظهوراً يعرفه من في خارج البيت، كظهور الأصوات أو الروائح الدالة عليه، لأنه متى ظهرت الأمارات الدالة عليه جاز التجسس والاحتساب عليه، قال الإمام الغزالي: «فاعلم أن من أغلق باب داره، وتستر بحيطانه، فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لنعرف المعصية، إلا أن يظهر في الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار، كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار، فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي، وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع، فهذا إظهار موجب للحسبة»(129).
الصورة الثانية: إخفاء من عرف بفسقه أدوات ووسائل المنكر، كمن يخفي في ملابسه قارورة خمر وما شابه ذلك، فيقرر بعض أهل العلم عدم جواز الكشف عن الذي مع أمثال هؤلاء إلا أن تظهر علامات خاصة تدل على أن ما معه منكر, ورجح الغزالي بأن الرائحة الفائحة في الخمر علامة تفيد الظن, والظن في هذه الحالة كالعلم، وبالتالي يجوز الاحتساب على مثل هذا(130)، وذكر ابن مفلح روايتين عن الإمام أحمد في مثل هذه الصورة: الأولى: لا يتعرض له؛ لأنه مغطى وغير ظاهر، كأهل الذمة ينكر عليهم إذا أظهروا الخمر بخلاف ما إذا ستروه، والثانية: وهي أصح الروايتين بأنه يجب الإنكار؛ لأن المنكر متحقق(131).
والناس ضربان: أحدهما: مستور لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة أو زلة فإنه لا يجوز كشفها وهتكها ولا التحدث بها، لأن ذلك غيبة، وفي ذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾[النور:19]، والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن الذي اتهم بها وهو بريء منها، أو المستتر فيما وقع منه.
الثاني: من كان مشتهراً بالمعاصي معلناً بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة، ومثل هذا فلا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود.
أما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة وهو داخل في التجسس المنهي عنه، ويتحقق الإظهار في حالة ما إذا أتى معصية بحيث يراه الناس في ذهابهم وإيابهم، أو يعلم بها عن طريق الحواس الظاهرة بحيث لا تخفى على من كان خارج الدار، وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف(132).
وقد تناول العلماء حالة غلبة الظن بوجود المنكر بالآثار الدالة عليه مع إسرار فاعليه ووضعوا لذلك صورتين من حيث نوع المنكر المرتكب، ثم قرروا حكم كل واحدة منها من حيث التجسس:
الصورة الأولى: أن يكون في المنكر المخفي انتهاك حرمة لا يمكن تداركها كالاعتداء على النفس بالقتل والمال بالسرقة والعرض بالزنا، كمن يخبره الثقة المأمون بأن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، ففي هذه الحالة يجوز التجسس والاقتحام على أهل المنكر لعظم الأمر وخطورته، قال الشربيني: «وليس لكل من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر التجسس والبحث واقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى شيئا غيره، نعم إن أخبره ثقة بمن اختفى بمنكر فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها كالزنا والقتل اقتحم له الدار وتجسس وجوباً»(133).
الصورة الثانية: ما كان أقل من ذلك في الريبة والشك، فهذا لا يجوز التجسس عليه، وكشف الأستار عنه، والاقتحام بسببه(134)، قال الماوردي: «فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارات دلت آثار ظهرت فلذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا بامرأة ليزني بها أو برجل ليقتله فيجوز له في مثل هذه الحالة أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث؛ حذراً من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم وارتكاب المحظورات، وهكذا لو عرف ذلك قوم من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والبحث في ذلك والإنكار…، والضرب الثاني: ما خرج عن هذا الحد -هذه الرتبة- فلا يجوز التجسس عليه ولا يكشف الأستار عنه… فمن سمع أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتهم أنكرها خارج الدار ولم يهجم عليه بالدخول؛ لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عما سواه من الباطن»(135).
وهذا الإنكار يتعلق بغلبة الظن؛ لأن الظن نوعان:
النوع الأول: مذموم نهى الشارع عن اتباعه، وأن يبنى عليه ما لا يجوز بناؤه عليه، مثل أن يظن بإنسان أنه زنى أو سرق أو قطع الطريق أو قتل نفساً أو أخذ مالاً أو ثلب عرضاً، فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه، وأراد أن يشهد عليه بذلك بناء على هذا الظن فهذا هو الإثم لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ [الحجرات:12] وحديث: “إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث”(136)، قال النووي: «المراد النهي عن ظن السوء»(137).
النوع الثاني: محمود يجوز اتباعه؛ لأن معظم المصالح مبنية على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية، وإنَّ ترك العمل بهذا النوع يؤدي إلى تعطيل مصالح كثيرة غالبة خوفاً من وقوع مفاسد قليلة نادرة وذلك على خلاف الحكمة الإلهية التي شرعت الشرائع لأجلها، ومن هذا القبيل إنكار المنكر في مثل الحالات الآتية:
الحالة الأولى: لو رأى إنساناً يسلب ثياب إنسان لوجب عليه الإنكار عليه بناء على الظن المستفاد من ظاهر يد المسلوب.
الحالة الثانية: لو رأى رجلاً يجر امرأة إلى منزله يزعم أنها زوجته وهي تنكر ذلك، فإنه يجب الإنكار عليه لأن الأصل عدم ما ادعاه.
الحالة الثالثة: لو رأى إنساناً يقتل إنساناً يزعم أنه كافر حربي دخل إلى دار الإسلام بغير أمان وهو يكذبه في ذلك، لوجب عليه الإنكار، لأن الله خلق عباده حنفاء، والدار دالة على إسلام أهلها لغلبة المسلمين عليها، ففي هذه الحالات وأمثالها يعمل بالظنون فإن أصاب من قام بها فقد أدى ما أوجب الله عليه إذا قصد بذلك وجه الله تعالى، وإن لم يصب كان معذوراً ولا إثم عليه في فعله، وللمحتسب أن يطوف في السوق وأن يتفحص أحوال أهله من غير أن يخبره أحد بخيانتهم، ولا يكون هذا من قبيل التجسس المنهي عنه بل هو من صميم عمله الذي ينبغي أن لا يشغله عنه شاغل(138).
الشرط الرابع: أن يكون المنكر متفقاً على تحريمه بغير خلافٍ معتبرٍ
فكل ما هو محل اجتهاد فليس محلاً للإنكار، بل يكون محلاً للإرشاد(139)، أما الإنكار في مسائل الخلاف فنبينه بالآتي:
أولاً: الفرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية
أ- المسائل الخلافية أعمُّ من الاجتهادية؛ إذ تشمل كل ما وقع فيه خلافٌ، وإن كان ضعيفاً أو شاذاً أو مما اعتبر من زلات العلماء، فكل مسائل الاجتهاد من مسائل الخلاف وليس العكس.
ب- المسائل الاجتهادية لا يُنكر على القائلين فيها بقول اجتهادي، ولكن تبقى المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن، والخلافية ينكر فيها على المخالف، وتتفاوت درجات الإنكار بحسب حال كل قضية.
ج- المسائل الاجتهادية لا إنكار فيها باليد، ولا باللسان بإقذاع وتثريب، وليس لأحدٍ أن يُلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يُتَكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه، بخلاف المسائل الخلافية.
إن عدم التفريق بين المسائل الخلافية والاجتهادية هو الذي أدخل اللبس في فهم قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، فاعتقد بعضهم أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، مع أن الذين نصوا على هذه القاعدة بعبارة (لا إنكار في مسائل الخلاف) قصدوا بها مسائل الاجتهاد(140)، ونأخذ على سبيل المثال ما قاله النووي: «ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه… ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً»(141)، فآخر كلامه يدل على أن المراد بعدم الإنكار في المختلف فيه هو مسائل الاجتهاد، ويدل على ذلك قوله: «وكذلك قالوا ليس للمفتى ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً»(142)، ويدل عليه أيضاً تعليله لذلك بأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم على المخطئ، وبأن الخلاف لم يزل بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهداً فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصاً أو إجماعاً أو قياساً جلياً(143).
ثانياً: ضابط المسائل الاجتهادية
هي التي يكون الخلاف فيها قوياً معتبراً له حظٌ من النظر، ويظهر فيها أحد الأوصاف التالية:
1- ما تجاذبها أصلان شرعيان صحيحان، فترددت بين طرفين وضح في كلٍ منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات، ومنها: زكاة الحلي، ترددت بين النقدين والعروض.
2- المسائل التي ليس فيها دليلٌ يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديثٍ صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها، كخروج النجاسات من غير السبيلين، وأخذ رجلٍ حقه من مغتصبه دون الرجوع إلى قضاء في حال ظلم القضاء.
3- ما تجاذبه نصان أو أكثر، وكل واحدٍ مقبول سنداً، ظاهر دلالةً: كتكبيرات العيد والجنائز، والجهر والإسرار بالبسملة، وكاستعمال الماء الكثير بعد وقوع نجاسة فيه لم تغيره، والتوضؤ من مس الذكر والنساء، والقراءة بالبسملة سراً أو جهراً وترك ذلك، وتنجيس بول ما يؤكل لحمه وروثه.
4- ما ورد فيه نصٌ، ولكنه ليس محل اتفاقٍ في دلالته، مع ظهور قوة استدلال الطرفين، وذلك كرفع اليدين في تكبيرات العيدين والجنائز، وكيفية الهوي إلى السجود، والخلاف في تكفير تارك الصلاة وتارك الأركان الأربعة غير الشهادتين تكاسلاً، ووجوب المضمضة والاستنشاق أو استحبابهما، ووجوب قضاء الفوائت بدون عذر أو عدم جواز قضائهما أصلاً، والخلاف في اختلاف المطالع ودوره في إثبات الشهر، وطلاق الثلاث بلفظ واحد وهل يقع ثلاثاً أو واحدة(144).
ثالثاً: معيار الإنكار
لأهل العلم أقوال عدة في معيار الإنكار في مسائل الخلاف:
القول الأول: معيار الإنكار هو مذهب المحتسب عليه إلا إذا كان الخلاف ضعيفاً، وكان الفعل ذريعةً ومؤدياً إلى محظور متفقٍ عليه، وذهب إليه الماوردي وأبو يعلى الفراء، ولكن الماوردي أورد فرقاً بين ما إذا كان المنكِر له ولاية الاحتساب أم لا، فقال: «واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي: هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا ؟ على وجهين: أحدهما -وهو قول أبي سعيد الإصطخري-: أن له أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده، فعلى هذا يجب على المحتسب أن يكون عالماً من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه فيما اختُلف فيه، والوجه الثاني: ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ولا يقودهم إلى مذهبه، لتسويغ الاجتهاد للكافة، فيما اختلف فيه، فعلى هذا يجوز أن يكون المحتسب من غير أهل الاجتهاد إذا كان عارفاً بالمنكرات المتفق عليها»(145)، فمن له ولاية الحسبة فله حق الإنكار على أحد الوجهين لما يترجح عنده أنه منكر، ويُلاحظ عليه: توفر أمرين لاستثناء الإنكار في مسائل الخلاف أحدهما مختلف فيه، وهو معيار الضعف، فقد يكون الخلاف عندك ضعيفاً وعند غيرك قوياً.
القول الثاني: معيار الإنكار هو مذهب المحتسَب عليه، وصرح بهذا الإمام الغزالي حين ذهب إلى أن من شروط الإنكار: «أن يكون كونه منكراً معلوماً بغير اجتهاد، فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة، فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية، ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ غير المسكر، وتناوله ميراث ذوي الأرحام، وجلوسه في دارٍ أخذها بشفعة الجوار، نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ، وينكح بلا وليٍ ويطأ زوجته فهذا في محل النظر، والأظهر أن له الحسبة والإنكار…»(146)، وتابعه الشيخ زكريا الأنصاري إلا أنه استثنى من ناحية عملية بعض المسائل المختلف فيها كشرب النبيذ؛ لأن أدلة عدم تحريمه واهية(147)، وقد بنى الغزالي مذهبه هذا على أن كل مجتهد مصيب في المسائل الفقهية، حيث قسم المسائل العلمية الشرعية إلى: المسائل الفقهية وهي أحكام الحل والحرمة التي يتصور أن يقال فيها (كل مجتهدٍ مصيبٌ)، والمسائل العلمية العقدية والعقلية التي لا يتصور فيها ذلك، وحمل البعض كلام الغزالي على أنه أراد بالإنكار هنا التغيير باليد، وأما باللسان فأقل الحالات أنه لا بأس ببيان كون المختلف فيه منكراً عند القائل به على سبيل الإقناع والإرشاد، وبيان الدليل من غير اصطحاب توبيخٍ أو تقريع(148), ولذا فإن أكثر الشافعية يرون حد الحنفي إذا شرب نبيذاً؛ لضعف أدلته(149)
القول الثالث: معيار الإنكار مذهب المحتسب عليه إلا في حالات استثنائية أهمها بُعْدُ المأخذ، وإليه ذهب الإمام السيوطي بقوله: «لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه، وتستثنى صورٌ ينكر فيها المختلف فيه: إحداها: أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ بحيث ينقض، ومن ثم وجب الحد على المرتهن بوطئه المرهونة، ولم ينظر لخلاف عطاء، الثانية: أن يُتَرافَعَ فيه لحاكمٍ فيحكم بعقيدته، ولهذا يحد الحنفي بشرب النبيذ إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده، الثالثة: أن يكون للمنكر فيه حقٌ كالزوج يمنع زوجته من شرب النبيذ إذا كانت تعتقد إباحته وكذلك الذمية على الصحيح»(150)، وزاد الإمام الزركشي صورة رابعة هي: أن يكون فاعل ذلك معتقداً للتحريم فينكر عليه حينئذ، ولهذا يعزر واطئ الرجعية إذا اعتقد التحريم(151)، وضعف المأخذ هو ما ارتضاه العز بن عبد السلام معياراً للإنكار في المختلف فيه، إذ يقول: «فمن أتى شيئا مختلفاً في تحريمه معتقداً تحريمه وجب الإنكار عليه؛ لانتهاك الحرمة وذلك مثل اللعب بالشطرنج، وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً تنقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع إذ لا ينقض إلا لكونه باطلا»(152).
وذهب إلى شيءٍ قريبٍ من هذا الإمام القرافي، فإنه مال إلى اعتبار مذهب المحتسب عليه هو معيار الإنكار، وأرشد إلى وجود نوعٍ من المسائل تكون أقل درجة في الإنكار من غيرها من الخلافيات فقال: «وإن لم يكن معتقداً تحريماً ولا تحليلاً، والمدارك في التحريم والتحليل متقاربة، أرشد للترك برفق من غير إنكار وتوبيخ؛ لأنه من باب الورع المندوب، والأمر بالمندوبات والنهي عن المنكرات هكذا شأنهما الإرشاد من غير توبيخ»(153).
القول الرابع: للجرهزي الذي ذكر كلام السيوطي وزاد عليه مجموعة زياداتٍ كالتالي:
1- أن الإنكار المنفي إنما هو باعتبار الإنكار الواجب، أما المندوب فيندب حتى في المختلف فيه برفق، ومعنى ذلك أن الإنكار المندوب لا يُنفى عن المختلف فيه بل يثبت لكل منكَرٍ حرامٍ مجمعٍ على حرمته، أو مختلفٍ فيه، فيطلب ويدعى على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف.
2- أن الإنكار الواجب المنفي هو الإنكار باليد عن المختلف فيه إنما هو لغير المحتسب الذي نصبه الإمام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما المحتسب فينكر وجوباً، على أن من أخل بشيءٍ من الشعائر الظاهرة ولو سنة كصلاة العيد والأذان، فيلزمه الأمر بهما، وكون الحاكم له حق الإنكار في المختلف فيه ذكره صاحب «البحر الزخار»؛ إذ لا يد فوق يده وعموم ولايته.
القول الخامس: المعيار هو النص والإجماع، فالإنكار يشرع عند ظهور مخالفة النص بضوابط فهمه التي تُلُقيت منه، وتناقلها أهل العلم في أصولهم وكتبهم، وليس المعيار مذاهب الناس، فمن خالف النص يُنكَر عليه سواءً أكان فعله موافقاً لمذهبه أم مخالفاً له.
قال ابن القيم: «وقولهم إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء، وما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف أو أخطأ كائناً من كان ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئا نبه على خطئه وأنكر عليه، وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً، وإنما دخل اللبس في هذه القاعدة من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم، والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم إن هذه المسألة قطعية أو يقينية ولا يسوغ فيها الاجتهاد طعن على من خالفها ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير مثل: كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفراً…» (154)، وبمثل هذا قال ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب(155)، وقال الشوكاني: «فالواجب على من علم بهذه الشريعة ولديه حقيقة من معروفها ومنكرها أن يأمر بما علمه معروفاً وينهى عما علمه منكراً، فالحق لا يتغير حكمه ولا يسقط وجوب العمل به والأمر بفعله والإنكار على من خالفه بمجرد قول قائل أو اجتهاد مجتهد أو ابتداع مبتدع، فإن قال تارك الواجب أو فاعل المنكر قد قال بهذا فلان أو ذهب إليه فلان؟ أجاب عليه بأن الله لم يأمرنا باتباع فلانك بل قال لنا في كتابه العزيز: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر:7]، فإن لم يقنع بهذا حاكمه إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمرنا الله سبحانه في كتابه بالرد إليهما عند التنازع»(156).
رابعاً: يدل على عدم الأخذ بإطلاق هذه القاعدة، وعلى عدم اعتبار الخلاف حكماً ما يلي:
1- الدليل الصحيح الصريح، الذي لا معارض له، في قوله عز وجل: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ﴾[النساء:59].
2- الإنكار في مسائل الخلاف كان واقعاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده مما يدل على أن النص هو معيار الإنكار، وهذا هو الأساس الذي اعتمده الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده للنظر فيما بينهم من مسائل خلافية، وكان يجري بينهم التذكير والإنكار بالمجادلة والمحاورة مع الخلق الرفيع والأدب العالي وحمل بعضهم لبعض على أحسن المحامل حتى وإن غلظت العبارة أحياناً، ثم يفيء منهم من فاء إلى النص، وهذا كثيرٌ وافرٌ، ومن أمثلته: ما رواه ابن عمر قال: بعث رسول الله خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: “اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين”(157)، فابن عمر ومن معه أبوا طاعة الأمير فيما ظهر لهم أنه يخالف الشرع، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعَرَّضَ بخالدٍ أن يفعل ما لا ينبغي، ويأمرهم به، مع أن خالداً هنا كان الأمير، واجتهد فيما أمرهم به، وامتد الإنكار في مسائل الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم إلى ما بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع وحدة الصف ورقي الأسلوب، ومن أمثلة ذلك: إنكار عدد من السلف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض اجتهاداته: فقد أنكر شيبة بن عثمان العبدري عليه عزمه على توزيع مال الكعبة(158)، وأنكر سعد بن أبي وقاص وابن عمر على عمر بن الخطاب رضي الله عنهم نهيه عن التمتع بالحج(159)، وأنكر ابن مسعود وغيره على عثمان إتمام الصلاة بمنى(160)، ومنع بعضهم وامتنع من اتباع اختيار الحاكم في المسألة الخلافية، وأنكروا عليه، فكيف بغيره؟! ولم يعتبر أحد منهم المذهب الخاص به هو معيار الإنكار، بل النص هو المعيار مادام ظاهر الدلالة، والحجة عليه لائحة، والفهم فيه غير بعيد المأخذ
3- أن خلاف العالم في مسألةٍ ما قد تكون من زلات أهل العلم، أو من شواذ الأقوال، وهو ما حذر منه أهل العلم قديماً وحديثاً، وقد يستمرئ العالم زلته وهو لا يشعر، ولا ينقص ذلك من قدره لطبيعته البشرية، وهذا ما حذر منه الراشدون، فعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: «هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت لا، قال: يهدمه: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين»(161)، فمن أخذ بالخلاف في كل شيء وقع لا محالة في الزلات، ثم كيف تعد الزلة خلافاً ؟!
4- قول السلف الصالح به، والنص عليه، وهو الذي نص عليه أئمة المذاهب المعتمدة، وشددوا على التحاكم إليه، بل نهى الأئمة الأربعة وغيرهم عن أخذ قول أحد خالف الكتاب أو السنة، وترك أصحاب الأئمة بعض أقوال الأئمة اتباعاً للنصوص، فقد اختلف أبو يوسف ومحمد بن الحسن مع شيخهما أبي حنيفة حتى في أصول المذهب، كذلك ابن وهب وابن الماجشون والمغيرة بن أبي حازم ومطرف بن كنانة لم يقلدوا شيخهم مالكاً في كل ما قال بل خالفوه في مواضع واختاروا غير قوله، وكذلك القول في المزني وأبي عبيد بن حربويه وابن خزيمة وابن سريج فإن كلاً منهم خالف إمامه الشافعي في أشياء واختار منها غير قوله، وهكذا أصحاب الإمام أحمد، وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل يحكي عن أبيه أنه قال: «قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا»(162).
5- كل خلافٍ مروي في كتب الفقه قد لا يعد خلافاً، فهناك عدد لا يستهان به من مسائل الخلاف إنما يُنقل فيه قول المخالف احتمالاً أي: سُمِع عن فلان أنه قاله نقلاً عن صاحبه، وبينهما قرون، أو نقله أحدهم في كتابٍ عن صاحبه، والسند منقطع أو معضل بينهما، وقد يكون الانقطاع لأجيال، أو تقَوَّله عليه لغلٍ شخصي وقد يورده أحدهم تخريجاً، أو احتمالاً، دون تأكدٍ من صحة الخلاف عنه, ولا وسيلة للتثبت من قوله فيه، فلماذا نجعل المسألة متعلقةً بخلاف فلان، وليس عندنا ما يدل على أنه خالف حقيقة، وقد صرح أحمد ولي الله الدهلوي-من المحققين-أن أكثر الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي مُخَرَّجٌ على كلام الأئمة، وأنه لا تصح به رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه(163)، ومن أمثلة هذا ما عزاه بعضهم إلى سفيان الثوري من جواز إمامة المرأة للرجال، وما عزاه آخرون إلى الإمام الطبري من جواز كون المرأة قاضيةً مطلقاً في الحدود وغيرها، وما ذكروه عن أبي حنيفة من جواز درء الحد عن واطئ الخادمة.
6- ما يترتب من آثار على الأخذ بإطلاق هذه القاعدة كتقليل الاعتماد على النصوص، وضعف النظر إليها, وتتبع زلل العلماء وشواذ الأقوال؛ إذ هي منقولةٌ كخلاف, والتناول السطحي لاختلاف العلماء، مما ينتج عنه تسويغ كلٍ من الرأيين الواردين في المسألة الواحدة ولو كان الخلاف فيها ضعيفاً أو شاذاً، وهذا يؤدي إلى العمل بالرخص مطلقاً، وتؤخذ الأقوال بالتشهي ولو كانت مجرد رأي فقيه لا دليل له من النص الصحيح، مما يؤذن بانحلال عزائم المكلفين في التعبد، قال الشاطبي: «الترخيص إذا أُخِذَ به في موارده على الإطلاق كان ذريعةً إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أُخِذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه… فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقة الحرجة، وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب طريق الخروج منها، وهذا ظاهر، وقد وقع هذا المتوقع في أصول كليةٍ وفروع جزئية كمسألة الأخذ بالهوى في اختلاف أقوال العلماء، ومسألة إطلاق القول بالجواز عند اختلافهم بالمنع والجواز»(164).
وانهيار قواعد الإسلام أصوله وفروعه؛ إذ أن أهل البدع، إنما خالفوا في مسائل تصدق عليها هذه القاعدة؛ وهم لم ينكروا نصاً بل حرفوا أو أولوا، ولا مفر من تطبيق هذه القاعدة عليهم عند قبولها على إطلاقها, وللأخذ بإطلاق القاعدة التأثير البالغ في انحراف المفاهيم الأساسية، قال الإمام الشوكاني: «وأما ما سيأتي للمصنف في السير من أنه لا إنكار في مختلف فيه على من هو مذهبه، فتلك مقالة تستلزم طي بساط غالب الشريعة»(165)، واندراس وسائل التقويم الداخلي داخل صفوف الحركات والجماعات الإسلامية، وذهاب أعظم معالم الدين كالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي، كما قال الإمام الشوكاني: «قوله: (ولا في مختلف فيه على من هو مذهبه)، أقول هذه المقالة قد صارت أعظم ذريعة إلى سد باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهما بالمثابة التي عرفناك والمنزلة التي بيناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع والنهي عما هو منكر من منكراته، ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً، وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً ثم على العامل به ثانياً»(166).
ويلاحظ على هذا الرأي: أنَّ الأخذ به يسبب الفرقة ويثير الفتن.
ويرد على الملاحظة بأن مراعاة ما يترتب على الإنكار تعالج المشكلة المثارة في الملاحظة.
ويظهر من هذا ومما سبق -في كلام الأئمة- أن الحمل على القول الصحيح في المسألة المختلف فيها واجبٌ على من له ولاية الحسبة وغيره، والإنكار الشديد على من فعل منكراً مطلوبٌ شرعاً بدرجات الطلب الشرعية إلا أن حق الإلزام إنما يكون لمن له ولاية الحسبة، وفي المقابل فللرعية الإنكار على الحاكم اختياره غير الصحيح في مسألة خلافية ضعف الخلاف فيها كما فعل علي في الإنكار على عمر وعثمان، وكما فعل ابن عباس في الإنكار على علي، أما المسألة الاجتهادية فليس للحاكم أن يحمل فيها غيره على قولٍ يظنه راجحاً، فضلاً عن غيره(167).
المبحث الثاني: ضابط الصيغة وهي نفس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه تمهيد وثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التغيير باليد وضوابطه، وفيه:
أولاً: درجات تغيير المنكر باليد:
الدرجة الأولى: إتلاف أدوات المنكر
الدرجة الثانية: التغيير بالضرب باليد والرجل وبما دون إشهار السلاح
الدرجة الثالثة: التغيير باليد بإشهار السلاح واستخدامه
الدرجة الرابعة: طلب الأعوان
ثانياً: الخروج على الحكام
المطلب الثاني: التغيير باللسان والقلب وضوابطهما، وفيه:
أولاً: درجات تغيير المنكر باليد
الدرجة الأولى: التعريف
الدرجة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله
الدرجة الثالثة: التعنيف بالقول الغليظ الخشن
الدرجة الرابعة: التهديد والتخويف
ثانياً: التغيير بالقلب وضوابطه
ثالثاً: الهجر الشرعي
المطلب الثالث: أحكام وضوابط أخرى، وفيه:
أولاً: حكم التجاوز والتعدي في تغيير المنكر
ثانياً: حكم أخذ الأجرة على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ثالثاً: التثبت في الأمور وعدم العجلة
رابعاً: البدء بالأهم فالمهم وتقديم الكليات على الجزئيات
خامساً: الغاية لا تبرر الوسيلة
التمهيد
يرى جمهور الفقهاء أن المراتب الأساسية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاث، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(168).
فمن وسائل الإنكار التعريف باللطف والرفق، ليكون أبلغ في الموعظة والنصيحة، وخاصة لأصحاب الجاه والعزة والسلطان وللظالم المخوف شره، فهو أدعى إلى قبوله الموعظة، وأعلى المراتب التغيير باليد، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه أو يأمر من يفعله، وينزع المغصوب، ويرده إلى أصحابه بنفسه، فإذا انتهى الأمر بذلك إلى شهر السلاح رُبط الأمر بالسلطان(169).
وقد فصل الغزالي في الإحياء مراتب الأمر والنهي وقسمها إلى المراتب التالية: أولها التعريف، ثم الوعظ بالكلام اللطيف، ثم التخويف من الله، ثم السب والتعنيف من غير فحش كأن يقول يا جاهل يا أحمق ألا تخاف الله، ثم المنع باليد بالقهر بطريق مباشر ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه، ثم التخويف والتهديد بالضرب، ثم مباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه، ثم الاستعانة وجمع الأعوان(170).
وفي الحقيقة فهذه التي ذكرها الغزالي لا تخرج عن المراتب الثلاث التي ذكرها الجمهور والتي سنفصل الحديث فيها في ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التغيير باليد وضوابطه:
أولاً: تغيير المنكر باليد له درجات عدة هي:
الدرجة الأولى: وتكون إما بإتلاف أدوات المنكر: ككسر الملاهي وإراقة الخمر، وإما بالمنع من استعمال أشياء حرم استعمالها كالحرير والذهب، فيخلع الحرير من لابسه وعن بدنه ويمنعه من الجلوس عليه، كذلك الذهب، ومنه دفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة وما يجري مجراه، ومنه التفريق بين المتخاصمين، ويقرر الإمام الغزالي أن ذلك يتصور في بعض المعاصي دون بعض، ثم يقول: «فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها[أي باليد] وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة»(171).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بشق ظروف الخمر وكسر دنانها دليل على إحدى الروايتين في جواز إتلاف ذلك عند الإنكار، وأن الظرف يتبع المظروف، ومثله ما ثبت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبى طالب أنهما أمرا بتحريق المكان الذي يباع فيه الخمر، وقد نص أحمد على ذلك، ومثله إتلاف الآلة التي يقوم بها صورة التأليف المحرم وهي آلات اللهو، فإن هذه العقوبات المالية ثابتة بالسنة وسيرة الخلفاء»(172).
وقال الإمام ابن القيم: «المنكرات من الأعيان والصور يجوز إتلاف محلها تبعاً لها مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها، فإذا كانت حَجَراً أو خشباً ونحو ذلك جاز تكسيرها وَتَحريقها، وكذلك آلات الْمَلَاهِي كَالطُّنْبُورِ(173) يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء، وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد»(174).
واستدل أهل العلم لذلك بحديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ثم إن الله فتحها عليهم، فلما أمسى الناس اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا كثيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذه النيران ؟ على أي شيء توقدون ؟ قالوا: على لحم، قال: على أي لحم ؟ قالوا: على لحم حمر إنسية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهريقوها واكسروها، فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها، قال: أو ذاك”(175)، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: “دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصبٍ فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: ﴿جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾[الإسراء:81]، ﴿جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾[سبأ:49]”(176)، وحديث أبي طلحة رضي الله عنه أنه قال يا نبي الله إني أشتري خمراً لأيتام في حجري، قال: “أهرق الخمر، واكسر الدنان”(177)، وعنه رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً قال: “ أَهْرِقُوهَا، قال: أفلا أجعلها خلا ؟ قال: لا”(178).
ففي هذه الأحاديث أمره صلى الله عليه وسلم عليه وسلم بإتلاف أعيان المنكرات، أو ما يمكن أن يستخدم فيها أو في المعاصي، بل باشر الإتلاف بنفسه كما في حديث ابن مسعود، وكل ذلك يدل على جواز إتلاف أدوات المعاصي والمنكرات باليد(179)، وبالتالي تغييره بها.
ثم إن الإمام الغزالي وضع أدبان لهذه الدرجة هما بمثابة الضوابط:
أحدهما: أن لا يباشر بيده التغيير إلا أن يعجز عن تكليف المحتسب عليه بذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي والخروج عن الأرض المغصوبة، فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره، وإذا قدر على أن يكلفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل دروز ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه؛ فإن في الوقوف على حد الكسر نوع عسر فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله
الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه ولا يزيد عليه، فلا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده؛ فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر، وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء(180).
س/ هل التغيير باليد في هذه الطريقة يكون لآحاد الناس؟
ج/ لأهل العلم في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: التغيير باليد بكسر أدوات المنكر والملاهي ثابت لآحاد الناس؛ للأحاديث السالف ذكرها، وإليه ذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة.
القول الثاني: التغيير باليد بكسر أدوات المنكر والملاهي لا يثبت لآحاد الناس، وإنما هو من اختصاص السلطان وأعوانه لقدرتهم عليه، أما آحاد الناس فليس لهم إلا التغيير باللسان، وهو المنقول عن الإمام أبي حنيفة، وقد رتب على ذلك الضمان لقيمتها صالحة لغير اللهو، وخالفه محمد بن الحسن وأبو يوسف فقالا: لا يضمنها؛ لأنها معدة للمعصية، ولأنه فعله بإذن الشارع لقوله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(181)، والكسر هو الإنكار باليد، ولهذا لو فعله بإذن ولي الأمر وهو الإمام لا يضمن فبإذن الشارع أولى، ثم قال ابن نجيم بعد ذكر ما سبق: «والفتوى في زماننا على قولهما؛ لكثرة الفساد»(182)، فكيف لو كان في زماننا!
القول الثالث: الواجب أن يربط الحكم بالآثار والنتائج المترتبة على عملية التغيير باليد في هذه الصورة، فيرعى المفاسد والمصالح، خصوصاً في الأزمان التي أصبحت فيها المنكرات والمعاصي تأخذ الصفة القانونية من جهة الأنظمة والدول التي أصبحت ترعى المنكرات وأهلها وأدواتها ووسائلها، حتى اعتاد عليها الناس، وأضفت لها الأيام الشرعية العرفية، وأصبحت إلفا مألوفاً، وفي إطلاق جواز التغيير باليد في هذه الصور وفي ظل هذه الأوضاع ما قد يترتب عليه المواجهة مع الدول والأنظمة الفاسدة من جهة، أو المواجهة والاقتتال بين أفراد المجمتع من جهة أخرى، فبالتالي لا بد من دراسة كل حالة على حدة، وإعطاؤها الحكم المناسب لها(183).
والمترجح هو القول الأخير فلا يمنع الناس بإطلاق لما يترتب على ذلك من فشو المنكرات وتوسع دائرتها، ولأن بعض الناس قد يرى مثل ذلك على من له عليه ولاية، أو كلمة مسموعة، ولا يباح بإطلاق؛ لما يخشى من استعمال العامة للقوة في إزالة المنكر من حدوث الفتن والفوضى والاضطراب، فيؤدي ذلك إلى منكر أعظم بكثير، فقد ينضم إلى هؤلاء العامة الذين استخدموا القوة لإزالة المنكر بنية صادقة ابتغاء مرضاة الله أناس أصحاب أهداف شريرة ليس هدفهم إزالة المنكر بل الإساءة إلى سمعة من عملوا بصدق على إزالته، كما قد يكون من أهدافهم تعكير الأمن والاستقرار وإثارة الفوضى(184)، وقد تضخهم الجهات الفاسدة لتحويل الأحداث وصرف الأنظار بها عن غيرها.
الدرجة الثانية: التغيير بالضرب باليد والرجل وبما دون إشهار السلاح: وقد جعلها الإمامان الغزالي والصالحي الدرجة السابعة من درجات الحسبة، وأثبتاها لآحاد الرعية ولكن بشرطين هما: وجود الضرورة والحاجة لذلك، والاقتصار على قدر الحاجة التي يحصل بها التغيير والدفع، فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف(185).
الدرجة الثالثة: التغيير باليد بإشهار السلاح واستخدامه: وقد اختلف في ثبوت ذلك للآحاد:
القول الأول: يجوز عند الضرورة لآحاد الرعية إشهار السلاح واستخدامه لتغيير المنكر، وقد يجب ذلك في بعض الحالات، قال الإمام الجصاص: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان: حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله، وإزالته باليد تكون على وجوه: منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلاً قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكراً فليغيره بيده”، فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضاً عليه، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله، وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله»(186)، ثم ذكر عن الإمامين أبي حنيفة ومحمد بن الحسن في رجل غصب متاع رجل وسِعَك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه فإذا أخذ المتاع وسعك أن تتبعه حتى تقتله إن لم يرد المتاع، وكذلك اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله، وفي رجل يريد قلع سنك في موضع لا يعينك الناس عليه(187).
واستدل الإمام الجصاص لذلك بقوله تعالى في الفئة الباغية: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾[الحجرات:9]، فقد أمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي والمنكر، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكراً فليغيره بيده”، فقد أمر بتغيير المنكر بيده على أي وجه أمكن ذلك، فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله(188).
وعند حديث الغزالي عن الدرجة السابعة للحسبة وهي مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح، وإثباته إياها لآحاد الناس للضرورة مع الاقتصار على قدر الحاجة قال: «وكذلك المحتسب يراعي التدريج، فإن احتاج إلى شهر سلاح وكان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة، كما لو قبض فاسقا مثلاً على امرأة، أو كان يضرب بمزمار معه، وبينه وبين المحتسب نهر حائل [مانع] أو جدار مانع، فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك إن لم تخل عنها، فله أن يرمي، وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه، ويراعي فيه التدريج، وكذلك يسل سيفه ويقول: اترك هذا المنكر أو لأضربنك، فكل ذلك دفع للمنكر، ودفعه واجب بكل ممكن، ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين»(189).
القول الثاني: التغيير باليد بإشهار السلاح واستخدامه لا يكون إلا للسلطان، قال الإمام النووي: «وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، فإن عجز رفع ذلك إلى صاحب الشوكة»(190)، لكنه ذكر في الصائل بأنه إذا لم يندفع إلا بالضرب فله الضرب ويراعى فيه الترتيب فإن أمكن باليد لم يضربه بسوط، وإن أمكن بسوط لم يجز بالعصا، ولو أمكن بقطع عضو لم يجز إهلاكه، وإذا أمكن بدرجة فدفعه بما فوقها ضمن(191), وقال: «ومتى غلب على ظنه أن الذي أقبل عليه بالسيف يقصده فله دفعه بما يمكنه وإن لم يضربه المقبل، ولو كان الصائل يندفع بالسوط والعصا ولم يجد المصول عليه إلا سيفاً أو سكيناً فالصحيح أن له الضرب به؛ لأنه لا يمكنه الدفع إلا به، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب سوط، والمعتبر في حق كل شخص حاجته»(192)، وقال الإمام النفراوي: «لكن نحو السلطان صفة أمره ونهيه أن يعرف المأمور أو المنهي بذلك فإن امتثل بمجرد التعرف وإن لم يمتثل هدده بالضرب فإن لم يمتثل ضربه بالفعل فإن لم يمتثل أشهر له السلاح إن وجب قتله ولا ينتقل عن مرتبة إلا عند عدم إفادة ما قبلها وأما غير نحو السلطان فإنما يأمر وينهى بالقول الأرفق فالأرفق»(193).
الدرجة الرابعة: طلب الأعوان: وقد ذكرها الإمام الغزالي بقوله: «أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح»، ثم ذكر فيها خلافاً لأهل العلم في احتياجه إلى إذن الإمام:
القول الأول: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد، وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا، ورجحه ابن الجوزي كما نقله عنه الإمام ابن مفلح أن ذلك يحتاج إلى إذن الإمام(194).
القول الثاني: لا يحتاج إلى الإذن في ذلك، ورجحه الغزالي القول الثاني؛ لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ما يليها، وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه، ولأنه يجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر، فكذلك قمع أهل الفساد جائز؛ لأن الكافر لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله(195).
القول الثالث: ينبغي ألا يقترن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإشهار السلاح إلا إذا اقتضت الحاجة والضرورة إليه للدفاع عن النفس والغير، دون إطلاق للحكم حتى لا يتحول الأمر إلى اقتتال داخل المجتمعات(196).
والمترجح هنا بأن حشد الأعوان وتجميعهم لتغيير المنكر إذ كان بدون حمل للسلاح ولا استعمال له فجائز، أما معهما فلا يجوز ذلك صيانة للدماء من الإراقة، وسداً لباب الفتن والاقتتال، وبالتالي فالراجح هو القول الأول، أما قياس قمع أهل الفساد على قمع أهل الكفر، فأظن بأنه قياس مع وجود الفارق؛ لأن أهل الفساد لا يزالون في دائرة الإسلام التي تعصم دمائهم إلا بحقها كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة”(197)، ومعلوم أن إقامة ذلك للسلطان.
أما أن أوائل درجات تغيير المنكر تقود إلى أواخرها حتى تصل إلى التضارب الذي يدعو إلى التعاون، فإن جواز التغيير بالضرب باليد إنما يجوز عند الضرورة والحاجة من دون تجاوز.
أما تقييد القائل بالقول الثالث الجواز باقتضاء الحاجة والضرورة إليه للدفاع عن النفس والغير، فمن المعلوم أن الضرورات لها أحكامها الخاصة بها كما في دفع الصائل.
ثانياً: الخروج على الحكام
للخروج على الحكام حالتان تناولها أهل العلم:
الحالة الأولى: تتعلق بظلم وفسق الحاكم.
والحالة الثانية: تتعلق بكفر الحاكم، وفيما يلي الحديث عنهما.
الحالة الأولى: الخروج على الحاكم الفاسق الظالم
والخروج في هذه الحالة محل خلاف بين أهل العلم، ولهم في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: وعليه جمهور العلماء من الفقهاء والمحدثين الذين يرون منع الخروج على الحاكم أو عزله لمجرد فسقه وظلمه، وعدم إقامته الحدود والحقوق، وإنما يجب تعريفه بما هو عليه من المنكر، ووعظه ونصحه بالكلام اللين اللطيف، وتذكيره بالآخرة، بل نقل الإمام النووي الإجماع على ذلك بقوله: «وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق»(198)، ويعلل ذلك بقوله: «وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه»(199)، ثم ينقل عن القاضي عياض قوله: «ولا تنعقد لفاسق ابتداءً، فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلا أن تترتب عليه فتنة وحرب، وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك»(200)، ويقول الإمام العبدري: «وقال عياض في إكماله أحاديث مسلم كلها حجة في منع الخروج على الأئمة الجورة وفي لزوم طاعتهم، وقال قبل ذلك: جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام أنه لا يخلع السلطان بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه وتخويفه»(201)، وقال شيخ الإسلام: «لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب»(202)، ويقول: «ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة»(203)، يقول الإمام ابن القيم: «فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر»(204)، ويقول الإمام الغزالي: «وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح، فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر»(205)، وقال الإمام ابن مفلح: «ولا ينكر أحد على سلطان إلا وعظاً له وتخويفاً أو تحذيراً من العاقبة في الدنيا والآخرة فإنه يجب ويحرم بغير ذلك»(206).
واستدلوا على منع الخروج بحديث جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان”(207)، وحديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة”(208)، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم والمنابذة لهم -العزل وطرح العهد والمحاربة لهم ونزغ البيعة- مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف(209)، وحديث حذيفة بن اليمان قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: “نعم، قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم، قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال: نعم، قلت كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”(210)، فهذا الحديث نص واضح في وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ولا سيما وقت ظهور دعاة الفتن، فإن في الالتزام بذلك نجاة من هؤلاء الدعاة، حتى لو كان الأئمة عندهم نقص في التمسك بالدين وجور على عباد الله المؤمنين(211)، واستدلوا برعاية وحدة الأمة وعدم الفرقة واجتماع الكلمة واحتمال أخف الضررين، فكثيراً من الصحابة والتابعين امتنعوا عن الخروج واعتزلوا الفتنة ولم يساعدوا الخارجين(212).
القول الثاني: ذهب إليه الإمام ابن حزم والإمام الجصاص، ونقله الإمام أبو حسن الأشعري عن المعتزلة والزيدية والخوارج وكثير من المرجئة، ونقله الإمامان ابن تيمية والعبدري عن الخوارج والمعتزلة، حيث ذهبوا إلى وجوب الخروج على أئمة الجور إن أمكن ذلك ولم يؤدِ إلى فتنة؛ لأن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد، ولدخول ذلك ضمن قتال الفئة الباغية الوارد ذكره في قوله تعالى: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[الحجرات:9]، ودخوله في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى﴾[المائدة:2]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[البقرة:124]، ولعموم الأدلة التي فيها الحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولحديث: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله”(213)، قال الإمام الجصاص: «فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات، ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث، فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح، وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾، وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره، وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح، فصاروا شراً على الأمة من أعدائها المخالفين لها؛ لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية، وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس وأعداء الإسلام، حتى ذهبت الثغور، وشاع الظلم، وخربت البلاد، وذهب الدين والدنيا، وظهرت الزندقة والغلو، ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية، والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر والله المستعان»(214)، ويرد ابن حزم على الجمهور بأن أحاديث الطاعة للحاكم الفاسق منسوخة بالعديد من الأخبار التي تتضمن النهي عن الطاعة في المعصية، فأحاديث الطاعة للحاكم الفاسق توافق حال المسلمين قبل فرض القتال، وكذلك فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باق على حكمه لم ينسخ، وهو ناسخ لخلافه، ثم نسب ابن حزم ذلك للإمام علي وطلحة والزبير وابنه ومعاوية وعائشة والحسين بن علي، وكل من قام في الحرة من الصحابة والتابعين وغيرهم(215)، غير أن الشوكاني رد عليهم بقوله: «قد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقاً، وهي متواترة متوافرة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح من العترة وغيرهم على أئمة الجور، فإنهم فعلوا ذلك باجتهادٍ منهم، وهم أتقى لله وأطوع لسنة رسول الله من جماعة ممن جاء بعدهم من أهل العلم»(216).
القول الثالث(217): يرى القائلون به منع قتال الحكام إذا انحرفوا بفسق أو معصية أو أمروا بالمعصية وذلك عملاً بأدلة الجمهور المانعة من الخروج، واستثنوا حالات يجوز الخروج فيها وهي:
1-ترك الحاكم للصلاة، أو ترك إقامتها في الأمة بدعوتهم إليها ومحاسبتهم عليها، لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة”(218)، وحديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا”(219)،ويعضدونه بقول القاضي عياض: «أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل [وقال]: وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها»(220).
2- ترك الحاكم للصيام؛ لأنه ركن من أركان الإسلام ويمكن إلحاق الزكاة به.
3- المجاهرة بالمعاصي وعدم الاستتار بها، وألحقوها هذا الموطن بالكفر البواح؛ لأن في المجاهرة نوع استحلال، وفي ذلك تعد كبير لحرمات الشرع، مع الاستدلال برواية ذكرها الإمام ابن حجر بقوله: «ووقع في رواية حبان أبي النضر المذكورة: “إلا أن يكون معصية لله بواحا”»(221)، غير أن هذه الرواية أخرجها ابن حبان عن جنادة بن أبي أمية أنه سمع عبادة بن الصامت يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عبادة، قلت: لبيك، قال: اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومكرهك وأثرة عليك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن تكون معصية لله بواحا”(222)، وهو بهذه الرواية ليس فيه استثناء من المنابذة للفسقة والظلمة والخروج عليهم بل هو استثناء من وجوب السمع والطاعة، أي الزم السمع والطاعة لهم إلا فيما يكون فيه معصية لله ظاهرة؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إلا إذا كانت الرواية التي ذكرها ابن حجر فيها الاستثناء من المنابذة والخروج.
4- الأمر بالمعاصي في العلن، واستدلوا لذلك بما أورده ابن حجر بقوله: «وعند أحمد من طريق عمير بن هانئ عن جنادة: “ما لم يأمروك بإثم بواحا”»(223).
والحديث عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، قال: “ما لم يأمروك بإثم بواحا”(224).
وظاهر الحديث مع الذي قبله في المسند يدل على أن الاستثناء في هذه الرواية من المنازعة والمنابذة للفسقة والظلمة وبالتالي يستقيم الاستدلال بها في هذا الموضع، إلا أنه ورد في مسند الشاميين ما يفهم منه أن الاستثناء متعلق بالطاعة، والحديث: “عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله وإن رأيت أنه لك“، قال عمير: «فحدثني خضير أو حضير السلمي أنه سمع من عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم وزاد: “إلا أن يأمرك بإثم بواحا عندك تأويله من الكتاب”، قال جفير أو خفير: قلت لعبادة: فإن أنا أطعته، قال: يؤخذ بقوائمك فتلقى في النار وليجئ هو فلينقذك»(225) فالسائل سئل عن الطاعة له إذا أمر بإثم بواحا ولم يسأل عن حكم عدم المنابذة لهم، إلا أنه يمكن أن يرد توجيهي هذا بأن استحقاق النار بسبب الطاعة وعدم المنابذة.
ويضيف بعض من يقول بهذا القول ما يلي:
أ- بأنه ينبغي النظر إلى المعاصي الصادرة عن الإمام نضرة تفصيلية تتناول حيثياتها وأبعادها ودوافعها، فالمعصية في السر مع عدم الدعوة إليها أو الأمر بها أخف بكثير من القيام بها جهراً والدعوة إليها والأمر بها، والمجاهرة بالمعصية والدعوة إليها لمجرد نزوة فردية لموقف عابر يختلف كثيراً عن أن يكون ذلك سياسة عامة مبرمجة تتبناها الدولة وتعمل على تحقيقها بمؤسساتها وأجهزتها المختلفة، ففي حالة الإسرار بها فإن ذلك يشير إلى أن المعصية كانت مجرد سقطة ووقوع في الهوى وربما تحصل التوبة منها، أما في حالة المجاهرة بها والدعوة إليها فإن ذلك يشير إلى أن ذلك قد يكون استحلالاً للحرمات وتشجيعاً عليها، وذلك أمر خطير يؤول إلى الكفر الصريح، وعليه لا بد من التثبت والوقوف على حقيقة الأمر فإن النزوات الفردية تختلف تماماً عن جعل ذلك سياسة عامة تتبناها الدول.
ب- لابد من ربط قضية الخروج على الحاكم بتحقيق مصلحة شرعية مرجوة من ذلك، فلا ينبغي النظر إلى عملية الخروج نظرة مجردة عما يترتب على ذلك من تداعيات وآثار، سواء كانت مصالح أم مفاسد، فلابد أن يخضع الأمر لعملية الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومن ثم إعطاء الحكم المناسب لواقع الحال في أي عملية خروج على الحاكم، وتوجه هذا الفقرة بقول شيخ الإسلام: «وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها»(226).
ج- ينبغي أن تفهم النصوص الشريعة الواردة في الموضوع في سياقها بحيث لا تتحول إلى مظلة شرعية لحكام الظلم والفسق، فإن النصوص لم تمنع الخروج عليهم لظلمهم وفسقهم كإقرار لهم على ذلك، وإنما المنع لما يترتب على ذلك من مفاسد وفتن، مع بقاء النظرة الشرعية الرافضة لظلم الحكام وفسقهم، وكذلك لا ينبغي أن تتحول النصوص في هذا المقام إلى ذريعة للسكوت عن ظلم الحكام وفسقهم، فلا بد من الإنكار عليهم بالوعظ والإرشاد والتخويف من غير خروج(227).
الحالة الثانية: الكفر البواح من الحاكم، وفيها اتفق العلماء على مشروعية الخروج على الحاكم، والكفر البواح هو الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أنه كفر بواح أي: ظاهر صريح بين بادٍ لا لبس فيه ولا يقبل التأويل(228)، لحديث جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا أصلحك الله، حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان”(229).
لقد استنتج العلماء من هذا الحديث أنه لا تجوز المنابذة إلا عند ظهور الكفر الواضح -في القول أو الفعل أو الاعتقاد- الذي ليس له فيه شبهة مع قيام الحجة، كإنكار الألوهية أو الطعن في أن القرآن من عند الله، أو أنه غير صالح للحكم، أو اعتقاد حل ما أجمع على تحريمه كالربا والزنا وشرب الخمر، فهو بهذا الاعتقاد يكون كافرا، أما ارتكاب المحرمات بغير اعتقاد حلها فهو عصيان لا يخرج به إلى الكفر، بل يكون فاسقا، واستنتجوا من حديث أم سلمة: “قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: “لا ما صلوا” وحديث عوف بن مالك: “أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة لا ما أقاموا فيكم الصلاة” بأنه لا يجوز منابذة الأئمة والخروج عليهم ما داموا يقيمون الصلاة، وليس المراد أنهم يصلون بالناس كما كان أئمة السلف، بل المراد أنهم يسمحون بإقامتها، ولا يضعون العراقيل في سبيلها(230)، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا؛ لأن قوله: “لا ما صلوا” أي: لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون، فما مصدرية ظرفية مع أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبادة: “إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان”، فحديث أم سلمة وحديث عوف بن مالك يدلان على قتال من لم يصل، وبضم حديث عبادة بن الصامت إلى ذلك يظهر الدليل على الكفر بترك الصلاة(231).
قال النووي: «قال القاضي عياض: أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل»(232).
مع ملاحظة أن ارتباط الخروج بالكفر يجب فيه الدقة في الحكم بالكفر على المسلم؛ لأن تكفير المسلم خطير؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: “إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما”(233)، وفي رواية: “أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه”(234)، فليس كل تصرف منه يبرر الحكم عليه بالكفر، فقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة فأبطل المحنة وأمر بإظهار السنة(235).
ليس من المعروف الطاعة في المعصية
أجمع المسلمون على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية الله تعالى، وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”(236)، وحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: “لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا إنما الطاعة في المعروف”(237).
أما حديث حذيفة: “تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”(238).
قال ابن حزم: «أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له وإن امتنع من ذلك بل من ضرب رقبته إن وجب عليه فهو فاسق عاص لله تعالى، وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة:2]، وقد علمنا أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام ربه تعالى قال الله عز وجل: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم :3، 4] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ﴾[النساء:82]، فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل ولا اختلاف فيه ولا تعارض ولا تناقض، فإذا كان هذا كذلك فيقين لا شك فيه يدري كل مسلم أن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم”(239)، فإذ لا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين، فالمسلم ماله للآخذ ظلماً وظهره للضرب ظلماً وهو يقدر على الامتناع من ذلك بأي وجه أمكنه معاون لظالمه على الإثم والعدوان وهذا حرام بنص القرآن»(240).
ويؤيد ذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا عبادة، قلت: لبيك، قال: اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومكرهك وأثرة عليك وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك إلا أن تكون معصية لله بواحا”(241)، وفي رواية: “ما لم يأمروك بإثم بواحا”(242)، وحديث كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أعاذك الله من إمارة السفهاء، قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردوا على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردوا على حوضي”(243)، وبهذا يظهر أن أمثال هذه الأحاديث هي الموافقة لنصوص القرآن الصريحة الواضحة ولروح التشريع ومقاصد الشريعة وقواعدها الكلية، فالإسلام جاء ليخرج الناس من ظلم العباد إلى عدل الشريعة ورحمتها لا ليخرج الناس من ظلم الكفر ويدخلهم في ظلم الحكام المسلمين الظلمة، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم لأحاديث وجوب السمع والطاعة للأمراء في الأمور التي لا تخرج عن دائرة المعروف، أما إذا خرج عن دائرة المعروف فلا سمع ولا طاعة، ولذا جاء هذا الأمر في خطبة الصديق رضي الله عنه بوضوح(244) حيث قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم »(245)، قال عروة بن الزبير: «أتيت عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت له يا أبا عبد الرحمن إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون بالكلام نحن نعلم أن الحق غيره فنصدقهم ويقضون بالجور فنقويهم ونحسنه لهم فكيف ترى في ذلك ؟ فقال: يا ابن أخي كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعد هذا النفاق فلا أدري كيف هو عندكم»(246).
الصدع بالحق وإنكار المنكر ليس من الخروج
لقد جمد البعض في فهم نصوص النهي عن الخروج على الحكام وظن أن الصدع بالحق في وجوه الظلمة والطواغيت ونهيهم عن المنكر من الخروج عليهم وهذا الفهم من أعجب العجيب، وقد سمعنا من يقول بذلك، بل وينشره في الناس من باب النصح، وهذا خطأ من قائله؛ لأن الصدع بالحق في وجوه الظلمة والطواغيت وإنكار المنكر عليهم ليس من الخروج عليهم، ويدل لذلك ما جاء في بعض روايات حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم -أو نقول- بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم”(247)، فانظر إلى الحديث كيف جمع بين النهي عن الخروج عليهم، والقيام أو القول بالحق على كل حال وفي كل مكان، مع ترك الخوف الذي يمنع من الصدع بالحق ويسبب المداهنة والسكوت على الباطل، ومَن الذين يُخاف من الصدع بالحق في وجوههم إلا الحكام وأصحاب النفوذ والأمر، فكيف يعد الصدع بالحق وإنكار الباطل والظلم والفساد من الخروج؟!! إنه من الخروج عن طاعة الله تعالى القائل: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران:104]، والقائل: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[هود:113]، ومن الخروج عن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم القائل: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”(248)، والقائل: “مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم”(249) فليس الصدع بالحق وإنكار المنكر خروجاًَ على الظلمة والمفسدين.
المطلب الثاني: التغيير باللسان وضوابطه
أولاً: درجات تغيير المنكر باللسان: لتغيير المنكر باللسان درجات ذكرها أهل العلم هي:
الدرجة الأولى: التعريف: ويقصد به تعريف الشخص بأن العمل الذي يقوم به منكر محرم، فإن المنكر قد يقدم عليه الشخص لجهله به، وإذا عرف أنه منكر تركه، فهذه الدرجة تكون مع الجاهل بحقيقة المنكر الذي وقع به، وتكون مع الجاهل المراد تعليمه أحكام الشرع من باب الأمر بالمعروف، والتعريف لابد أن يكون باللطف دون عنف أو خشونة، فلا يتهمه بالجهل والحماقة ويقذفه بذلك؛ لأن ذلك لا يرضاه أحد لنفسه، ولذلك كان لا بد من اللطف واللين مع الجاهل حتى لا يتأذى من الأمر والنهي، قال الإمام الغزالي: «فيجب تعريفه باللطف من غير عنف؛ وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق، والتجهيل إيذاء، وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع… والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية؛ لأن الجهل قبح في صورة النفس، وسواد في وجهه، وصاحبه ملوم عليه، وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن، وقبحها أشد من قبح البدن… وإذا كان التعريف كشفاً للعورة، مؤذياً للقلب، فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق، فنقول له: إن الإنسان لا يولد عالماً، ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء»(250)، وقال الإمام الصالحي: «ثم ليكن وعظه في هذه الدرجة تعريضاً وإرشاداً من غير تنصيص على شخص»(251).
الدرجة الثانية: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى: وهذه الدرجة تتوجه لمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكرا، فهؤلاء يوعظون ويخوفون بالله تعالى وغضبه وعقابه ووعيده، وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك، وتحكى لهم سيرة السلف الصالح، وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، قال الإمام الغزالي: «فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى، وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك، وتحكى له سيرة السلف، وعبادة المتقين، وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه نظر المترحم عليه، ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة»(252)، وليحذر المحتسب من أن يرى عند التعريف عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل، فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم، وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل؛ لأن هذا الباعث منكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه، وذكر الإمام الصالحي أدباً لهذه الدرجة وهو الإسرار بالوعظ في قوله: «ينبغي أن يكون الوعظ والنصح في سر لا يطلع عليه أحد، فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة، وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة»(253).
الدرجة الثالثة: التعنيف بالقول الغليظ الخشن: وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف، وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام ﴿أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء:67]، فيخاطبه بما هو فيه مما لا يعد من جملة الفحش كقوله: يا فاسق، يا أحمق، يا جاهل ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى؛ لأن كل فاسق فهو أحمق وجاهل ولولا حمقه لما عصى الله تعالى، فيترك الفحش والكذب -كنسبته إلى الزنا ومقدماته- واللعن والطعن في النسب فكل ذلك لا يجوز، وإذا رجع المأمور أو المنهي عن المنكر أثناء التغليظ عليه فعلى الشخص الآمر والناهي الإقلاع والكف عن القول الغليظ في هذه الحالة؛ لأن المقصود هو إزالة المنكر وقد تحقق، فلم يبق للكلام الغليظ فائدة(254)، وقد وضع الإمام الغزالي لهذه الدرجة أدبين هما:
أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف.
الثاني: أن لا ينطق إلا بالصدق، ولا يسترسل فيه، فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه، بل يقتصر على قدر الحاجة، فإن علم أن خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه بل يقتصر على إظهار الغضب، والاستحقار له، والازدراء بمحله لأجل معصيته(255).
الدرجة الرابعة: التهديد والتخويف: كتهديده بالضرب وما شابهه، أو تخويفه مما يحذره ويخافه، قال الإمام الغزالي: «كقوله دع عنك هذا أو لأكسرن رأسك، أو لأضربن رقبتك، أو لآمرن بك وما أشبهه… والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله: لأنهبن دارك أو لأضربن ولدك، أو لأسبين زوجتك، وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو كذب، نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه، وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص»(256).
ثانياً: التغيير بالقلب وضوابطه
تعتبر هذه المرتبة هي أدنى مراتب تغيير المنكر من حيث التكليف والقوة والتأثير في دفع المنكر، ولكنه في الحقيقة أول مراتب تغيير المنكر من حيث العمل والممارسة، فأول ما يبدأ به الإنكار القلبي ثم الإنكار باللسان أو اليد حسب قدرته وما يتيسر له، إذ لا يتصور إنكار المنكر باليد أو اللسان قبل إنكاره بالقلب، ويكون الإنكار القلبي ببغض المعاصي والمنكرات عند رؤيتها أو السماع بها، لما في ذلك من تعد لحدود الله تعالى، وانتهاك لحرماته، والمسلم يغضب لله تعالى ولحرماته، وهذا يدفعه إلى إنكار المنكر باللسان أو اليد، أما من يرى المنكر دون أن يتأثر به قلبه وينكره، فإن ذلك يدفعه إلى القعود عن الإنكار.
ولا يشترط لإنكار المنكر بالقلب القدرة والاستطاعة؛ لأن ذلك من أعمال القلب التي لا يوجد ما يمنع المكلف منها(257)، فالإنكار بالقلب واجب على كل مكلف، ولا يسقط عن المكلف أصلاً؛ إذ هو كراهة المعصية(258)، وهو ملازم لما هو أعلى منه تكليفاً، فمن استطاع التغيير اليدوي لزمه معه أيضاً التغيير القلبي، وكذلك مستطيع التغيير اللساني يلزمه التغيير القلبي؛ لأن التغيير القلبي للمنكرات: كُرهُُ قلبي، تصاحبه استجابة سلوكية لمقتضياته(259).
ثالثاً: الهجر الشرعي
وهو مما يدخل في الإنكار القلبي وعده بعض أهل العلم من شروط الإنكار القلبي الهجر الشرعي.
أ- الهجر ضد الوصل، وهجر الشيء تركه، والهجر من الهجران وهو ترك ما يلزمك تعاهده، وقيل الهجر المغيب أيا كان، وقيل: الترك والقطيعة, والتهاجر التقاطع(260)، قال الإمام المناوي: «الهجر والهجران مفارقة الإنسان غيره إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب»(261).
ب- الهجر في هذا الباب على نوعين:
النوع الأول: هجر المنكرات والمعاصي وتركها، سواءً من جهة ترك القيام بها وفعلها، فيترك مقارفة المعاصي والإقدام عليها، وهذا واجب على كل مسلم؛ لقوله تعالى: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾[المدّثر:5]، قال الإمام القرطبي: «وعن بن عباس أيضاً والمآثم فاهجر أي: فاترك»(262)، وقال الإمام ابن كثير:«وقال إبراهيم والضحاك: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ أي: اترك المعصية»(263)، وقال الإمام السعدي: «ويحتمل أن المراد بالرجز أعمال الشر كلها وأقواله فيكون أمرا له بترك الذنوب صغارها وكبارها ظاهرها وباطنها»(264)، ومن جهة هجر الأماكن التي تحدث فيها المعصية، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾[الأنفال:25]، قال الإمام القرطبي: «قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير، وإذا لم تغير وجب على المؤمنين المنكرين لها بقلوبهم هجران تلك البلدة والهرب منها، وهكذا كان الحكم فيمن كان قبلنا من الأمم كما في قصة السبت حين هجروا العاصين وقالوا: لا نساكنكم، وبهذا قال السلف رضي الله عنهم، روى بن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهاراً ولا يستقر فيها»(265)، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر-ديار ثمود قوم صالح عليه الصلاة والسلام- قال لأصحابه: “لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ؛ أَنْ يُصِيبَكُمْ ما أَصَابَهُمْ إلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ وَأَسْرَعَ السَّيْرَ حتى أَجَازَ الْوَادِيَ”(266), وفي رواية: “لَا تَدْخُلُوا على هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إلا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصَابَهُمْ“(267).
النوع الثاني: هجر أهل المعاصي، بترك مخالطتهم ومجالستهم؛ لأن المرء مفطور على التأثر والتأثير؛ لأنه اجتماعي بالطبع وهو كما يقال ابن بيئته، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى رضي الله عنه إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك(268)، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة”(269).
قال شيخ الإسلام: «من فعل شيئاً من المنكرات كالفواحش والخمر والعدوان وغير ذلك فإنه يجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الأيمان” فان كان الرجل متستراً بذلك وليس معلناً له أنكر عليه سراً وستر عليه كما قال النبي من ستر عبداً ستره الله في الدنيا والآخرة إلا أن يتعدى ضرره، والمتعدي لابد من كف عدوانه وإذا نهاه المرء سراً فلم ينته فعل ما ينكف به من هجر وغيره إذا كان ذلك أنفع في الدين، وأما إذا اظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة، ووجب أن يعاقب علانية بما يردعه عن ذلك من هجر وغيره فلا يسلم عليه ولا يرد عليه السلام إذا كان الفاعل لذلك متمكنا من ذلك من غير مفسدة راجحة، وينبغي لأهل الخير والدين أن يهجروه ميتاً كما هجروه حياً إذا كان في ذلك كف لأمثاله من المجرمين فيتركون تشييع جنازته كما ترك النبي الصلاة على غير واحد من أهل الجرائم»(270)،
ويقول الصالحي: «ومما يستحب أو يجب على كل مسلم هجران من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية… وذلك عند العجز عن الإنكار باليد واللسان»(271).
وقال ابن مفلح: «يسن هجر من جهر بالمعاصي الفعلية والقولية والاعتقادية»(272).
وقال ابن الأثير: «فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق»(273).
وقال الجصاص: «وكذلك حكم سائر من كان مقيماً على شيء من المعاصي الموبقات مصراً عليها مجاهراً بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن، وتغيير ما هم عليه بيده، وإن لم يستطع فلينكره بلسانه، وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه، فإن لم يرج ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم بعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه”»(274).
ويبين شيخ الإسلام ضابط الهجر بقوله: «ومن هذا الباب هجرة المسلم من دار الحرب، فالمقصود بهذا أن يهجر المسلم السيئات، ويهجر قرناء السوء الذين تضره صحبتهم إلا لحاجة أو مصلحة راجحة، وأما هجر التعزير فمثل هجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الثلاثة الذين خلفوا، وهجر عمر والمسلمين لصبيغ، فهذا من نوع العقوبات فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر فهي مشروعة، وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب فليست مشروعة والله أعلم»(275)، ويقول: «هذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف ولهذا كان النبى يتألف قوما ويهجر آخرين»(276)، فالهجر إن حقق مصلحة شرعية كان مشروعاً، وإن ترتب عليه مفاسد ومنكرات أعظم فليس بمشروع(277).
ويدخل في الهجر كوسيلة للتغيير المقاطعات الاقتصادية، كما حصل ذلك من المسلمين تجاه الدنمارك غضباً من أمة الإسلام على الجريمة الدنمركية الكاركاتيرية التي حاولت النبيل من مقام نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي وسيلة ناجعة أثبتت دورها في التغيير إلا أن الواجب على الأمة أن تظل مستمرة في هذه المقاطعات وإلا يكون تأثرها مؤقت ومحدود في ظروف وأوقات معينة؛ لأن هذا الأمر من شأنه إضعاف دور هذه الوسيلة في التغيير، والعجيب ممن لا يأبهون بهذه المقاطعات التي تعد ضرباً من ضروب الإنكار بل هي أقل شيء يمكن عملة لإظهار الإنكار، كيف يقدمون شهوات البطون وحب الأموال على أقل واجب عليهم تجاه دينهم ونبيهم وكرامة أمتهم!
المطلب الثالث: أحكام وضوابط أخرى
أولاً: حكم التجاوز والتعدي في تغيير المنكر
ذكر أهل العلم أن المنكر إن كان يندفع بالمرتبة الأدنى فلا ينبغي السير إلى الأعلى؛ فإن كان المنكر يندفع باللسان فلا يجوز دفعه باليد، وإن كان يندفع بالتعريف لم يجز التوبيخ، وهكذا في سائر المراتب، والضابط في هذا هو (الاقتصار على قدر الحاجة)، وكون العلماء قد نصوا على ذلك فإنهم لم يتركوا ذلك مجرد قواعد نظرية لا علاقة لها بالواقع، بل نصوا على أن من يتعدى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتجاوز القدر المسموح به والمحتاج إليه في دفع المنكر وإزالته، فإنه يضمن ما تجاوز به في النفس والمال(278)، يقول الإمام الغزالي: «أما كيفية الدفع، فيجب فيه التدريج، فإن اندفع بالكلام لم يضرب، أو بالضرب لم يجرح، أو بالجرح لم يقتل، وإذا اندفع لم يُتبع، ولو رأى من يزني بامرأة فله دفعه إن أبى ولو بالقتل، فإن هرب فاتبعه وقتله وجب القصاص عليه إن لم يكن محصناً، فإن كان محصناً فلا قصاص؛ لأنه مستحق القتل، وإن لم يكن للآحاد قتله»(279)، فهروب الزاني بعد الزنا يعني أن المنكر قد اندفع ولم يبق إلا العقوبة، وليست لآحاد الرعية، وفي حالة التعدي عليه بالقتل بعد الهروب القصاص على المتعدي؛ لأن عقوبة غير المحصن الجلد لا القتل، فاعتبر القتل تعدياً يلزم فيه الضمان الذي هو القصاص، ويقول الإمام النووي: «ومن اقتصر في إبطالها على الحد المشروع فلا شيء عليه، ومن جاوزه فعليه التفاوت بين قيمتها مكسورة بالحد المشروع وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أتى به، وإن أحرقها فعليه قيمتها مكسورة الحد المشروع»(280).
قال الشيخ عبد القادر عودة: «حكم التجاوز في دفع المنكر: إذا استعمل المدافع في النهي عن المنكر أو تغييره وسيلة تزيد عما يقتضيه الحال فهو مسئول عن هذه الزيادة، وكذلك إذا تعدى الحدود المقررة لوسيلة من الوسائل، فإذا عنف فاعل منكر فقذفه فهو مسئول عن القذف؛ لأن القذف لا يدخل في التعنيف، وإذا كان المنكر يندفع بالتعنيف أو التهديد فضرب فاعل المنكر أو جرحه فهو مسئول عن الضرب والجرح، وإذا اندفع المنكر بضربة واحدة أو جرح واحد فضربة ضربة ثانية أو جرحه جرحاً ثانياً فهو مسئول عما فعل بعد اندفاع المنكر.
وإذا كان المنكر يندفع بتغييره باليد فليس له أن يتعدى الحدود المقررة للتغيير، فإذا كان المنكر شرب الخمر أو إحرازها فإن تغيير المنكر يكفي فيه إراقة الخمر، فإذا أتلف الموائد المنصوبة في محل الخمار أو الأبواب أو الأمتعة أو أحرقها فهو مسئول عن ذلك.
ولا محل للنهي عن المنكر أو تغييره قبل مباشرة المنكر أو بعد مباشرته؛ لأن مباشرة المنكر هي التي تحل النهي عنه أو تغييره دفعاً للمنكر، فإذا لم يقع المنكر فلا يمكن اعتبار ما يقع على قاصد فعل المنكر دفعاً وإنما هو اعتداء، وإذا انتهى فاعل المنكر من فعله فما يقع عليه من أفعال أو ما يوجه إليه من أقوال بسبب فعل المنكر لا يعتبر دفعاً للمنكر وإنما اعتداء على فاعله.
والأصل أن ما يدفع به المنكر مباح ولا يعتبر جريمة ما دام لم يتعد الحدود المقررة لدفع المنكر، لكن إذا تعدت أفعال دفع المنكر إلى الغير وأصابته خطأ اعتبر الفعل بالنسبة للغير خطأ ولو أنه صدر من فاعله متعمداً إياه؛ لأن الفعل المباح ضد فاعل المنكر محرم ضد غيره، فالتعمد لا عبرة به؛ لأنه تعمد فعل مباح والقاعدة أن من تعمد فعلاً مباحاً فأخطأ في فعله يسأل عن نتيجة الخطأ باعتباره مخطئاً لا عامداً»(281).
ثم عقد الشيخ سؤالاً وجواباً إليك نصهما:
س/ هل لفاعل المنكر حق الدفاع؟
ج/ليس لفاعل المنكر أن يتعدى على من يدفع المنكر بحجة أنه يدفع عن نفسه أو ماله طالما أن دافع المنكر لم يتجاوز حدود دفع المنكر، فإذا تعدى هذه الحدود كان عمله اعتداء وكان لفاعل المنكر أن يدفع هذا الاعتداء(282).
بل من العلماء من أوجب الضمان على من قدر على دفع المنكر الواقع على غيره في النفس والمال وأحجم عن ذلك، وهذا يدل على أن العلماء قد اعتبروا مراتب التغيير إلى أبعد مدى، حتى أصبح الإحجام عن تغيير المنكر مع القدرة تعد موجب للضمان، يقول الإمام ابن مفلح وهو يتحدث عن نصرة المسلم: «بل قد توجب دفع الغير عن دمه وماله إذا رأى نفسه أو ماله يتلف وهو قادر على تخليصه، وقد أوجب القاضي وأبو الخطاب ضمان النفس على من قدر على تخليصها من هلكة فلم يفعل كما يضمن من لم يؤد الواجب من إطعامها وسقيها»(283)، وقد تناول الإمام الغزالي مسألة الدفع عن مال المسلم من الهلاك، وأوجب الدفع على من حضر إذا أمن على نفسه وماله وجاهه من الضرر والإيذاء(284)، يقول الإمام الغزالي: «بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الحق إليه وجب عليه ذلك، وعصى بكتمان الشهادة، ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك»(285).
ثانياً: حكم أخذ الأجر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
اختلف أهل العلم في حكم أخذ الأجرة على الطاعات كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأذان والحج وتعليم القرآن والجهاد، فذهب فريق منهم إلى أن الأصل أن كل طاعة لا يجوز الاستئجار عليها، وهو رأي للحنفية ومذهب الإمام أحمد؛ لما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: إن من آخر ما عهد إلي النبي صلى الله عليه وسلم: “أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً”(286)، وما رواه عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إلى رجل منهم قوساً، فقلت: ليست ببال، وأرمي عنها في سبيل الله، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: “إن سرك أن تطوق بها طوقاً من نار فاقبلها”(287).
وأجاز الشافعي ومالك والمتأخرون من الحنفية ذلك، وهو رواية عن أحمد، وقال به أبو قلابة وأبو ثور وابن المنذر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً بما معه من القرآن وجعل ذلك يقوم مقام المهر(288)، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله”(289)، على أن المحتسب المعين يفرض له كفايته من بيت المال ما يفرض للقضاة وأصحاب الولايات، بخلاف المتطوع؛ لأنه غير متفرغ لذلك(290).
وقد نظمت المسألة ببيتين هما:
وأجرة للحج والمنافع | والعلم والقرآن أفتى الشافعي |
ومالك وأحمد رواية | ومنع النعمان ذو الدراية(291) |
ثالثاً: التثبت في الأمور وعدم العجلة
على الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر الداعي إلى الله تعالى التأكد من كل أمر والتثبت بشأنه، وعدم التسرع والعجلة، والحرص على الرفق والأناة بالناس وملاطفتهم حال أمرهم أو نهيهم، فإن في ذلك من الخير ما لا يحصى، وهو مما لا بد منه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي دعوة الناس إلى الخير، وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، كما ذم الكسل والتباطؤ ونهى عنهما، ومدح الأناة والتثبت، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات:6]، وقد نزلت الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتيه بصدقات أموالهم فلما سمعوا به تلقوه فرحاً به فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله فرجع إلى نبي صلى الله عليه وسلم وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله فغضب رسول الله وجهز الجيش لغزوهم فقدم وفد منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما أرادوا فأنزل الله هذه الآية(292)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تثبتا وأناة في الأمور، فكان صلى الله عليه وسلم لا يقاتل إلا بعد التأكد بأن من يقصدهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك رضي ال له عنه: “أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوما لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم”، وها هو القاضي أبو يعلى يذكر في الأحكام السلطانية ما يتعلق بالمحتسب فيقول: «وإذا رأى وقوف رجل مع امرأة في طريق سالك لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرض عليهما بزجر ولا إنكار، وإن كان الوقوف في طريق خال فخلو المكان ريبة فينكرها ولا يعجل في التأديب عليهما حذراً من أن تكون ذات محرم وليقل: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب، وإن كانت أجنبية فأحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله عز وجل، وليكن زجره بحسب الأمارات، وإذا رأى المحتسب من هذه الأمارات ما ينكرها تأنى وفحص وراعى شواهد الحال ولم يعجل بالإنكار قبل الاستخبار»(293).
رابعاً: البدء بالأهم فالمهم وتقديم الكليات على الجزئيات
البدء بالأهم فالمهم من القواعد والمبادئ التي تحكم القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «جهاد فيه بذل جهد ومشقة، فينبغي على المسلم أن يوجه هذا الجهد إلى إصلاح القضايا الأكثر أهمية، والجرح الأعظم اتساعاً، وأصول الفساد والمنكر، ولا يجب أن يصرف همه وجهده ووقته كله في علاج الجزئيات والفروع البسيطة، إذا كان فسادها ناشئاً عن فساد أصل من الأصول، على أن هذا لا يعني إهمال الجزئيات والفروع، فالدين لله وليس منه شيء يجوز أن يهون من شأنه أو أن يتجاهل أو يهمل، وإنما هناك أولويات شرعية، وسُلم هذه الأولويات الشرعية يبدأ بتعليم أصول العقيدة، ثم فعل الفرائض وترك المحرمات، ثم أداء السنن وترك المكروهات، وهي كالضروريات ثم الحاجيات ثم التحسينات»(294)، فأنت حين ترى على إنسان مجموعة أخطاء فمن الحكمة أن تبدأ بالخطأ الأكبر قبل الأصغر، فليس معقولاً أن تلومه على ترك بعض الأذكار المسنونة وهو يخل بواجبات الصلاة أو أركانها، وابدأ في معالجة المنكر بأهمه وأخطره بتدرج، والتدرج في الدعوة ثابت في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن فقال: “إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمنهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمنهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب”(295)، فتقديم الأهم فالمهم شريعة نبوية، كانت جزءا من منهجه في الدعوة العملية وهي جزء من وصيته، بل نفس الشريع روعي فيه ذلك فأول ما نزل آيات العقيدة التي أنبتت الجاني الإيماني في النفوس وعملت على تثبيته، فلما قوي هذا الجانب وتجذر في القلوب أتت الأحكام والتشريعات لتجد أرضية متينة وصلبة مستعدة لتلقي التكاليف والقيام بها بل وحمل هذا الدين والدفاع عنه بالنفس والنفيس(296)، وقد ضرب الإمام الغزالي مثلاً لمن يشتغل في الأمور الأقل أهمية ويترك الأمور الخطيرة بقوله: «فمن غُصِب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئا إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه»(297).
خامساً: الغاية لا تبرر الوسيلة
إن الإسلام لا يقبل الوصول إلى الغايات الطيبة بالوسائل الخبيثة، بل يؤكد كل التأكيد أنه لا بد من اجتماع الأمرين: الغاية الشريفة، والوسيلة النظيفة، ونرى مصداق ذلك في نص حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”(298)، فلم يشفع لركاب السفينة الغاية الحسنة التي أرادوا بسببها خرق السفينة وهي عدم أذية وإزعاج إخوانهم في الطابق الأعلى للسفينة طالما أن الوسيلة خاطئة بل مهلكة.
ويشاهد هذه الأيام أن كثيراً من الحكومات العربية والإسلامية ترفض هذا المبدأ فيسعون إلى المقاصد التي يزعمون أنها حسنة بالوسائل الخبيثة والممنوعة، ومن ذلك:
1-رفع الأسعار هذه الوسيلة الخبيثة التي أفقرت الشعوب ودمرت الاقتصاد، ويزعمون أن المقصد من ذلك السعي إلى إصلاح وتطوير الاقتصاد، فلو كان مقصدهم -الذي ظاهره حسن وجميل- صادقاً فإنه لا يبرر الوسائل الخبيثة التي يسلكونها، فلابد أن تكون الوسيلة صحيحة حسنة، فمن أراد إصلاح الاقتصاد والتخلص من الغلاء فعليه بالوسائل المشروعة لا الممنوعة، والحسنة لا الخبيثة، والوسائل الحقيقة لا الموهومة المكذوبة، الوسائل التي تجتث الفساد والمفسدين من الجذور، خصوصاً وأن الحكومات تملك زمام الأمور، لكن للآسف فقد استشرى الفساد ونخر في هذه الحكومات حتى ارتقى مرتقاً صعباً بسبب التهاون فيه وفي إزالته والمتسببين فيه، وهكذا الكثير من السياسات الفاسدة المعوجة التي يزعمون لها الدوافع الخيرة والبواعث النبيلة كالزعم بأنهم يهدفون إلى إنقاذ الشعوب، فلو افترضنا صحة هذه الدعوى – على ما فيها من شطط وتجاوز- ما جاز لهم بحال أن يصلوا إلى غاياتهم التي يزعمون شرفها ونبلها ورفعتها بهذه الوسائل القذرة التي تقوم على مخالفة مبادئ الإسلام، والاستهانة بالشعوب واحتقارها وتجويعها وإذلالها إلى حد يصل إلى الاستهانة بسفك الدم بغير حق، فعلى الحكومات العربية والإسلامية التنبه لهذا الأمر فالمقاصد الحسنة لا تبرر الوسائل الممنوعة.
2- سن القوانين التي تحدد سن الزواج وتمعنه من سن مبكر والغاية-حسب ما يزعمونه- رفع الظلم والضرر الواقع على المرأة في تزويجها من سن مبكر، هذه الغاية في ظاهرها-المفترى المزعوم- طيبة إلا أن الوسيلة خبيثة منكرة، والغاية لا تبرر الوسيلة؛ لعدم مشروعية الوسيلة التي تصادم الأدلة الشرعية(299)، ولو صدق أدعياء هذا القانون في دعواهم لاختاروا الوسائل المشروعة لتحقيق الغايات النافعة، فالأولى بنا إذا أردنا أن نرفع الظلم والضرر المزعوم سلوك الوسائل المشروعة كتعليم الناس أحكام الدين وشريعة رب العالمين، هذه الشريعة التي تذكر الآباء بمسؤولياتهم تجاه الأبناء وترشدهم إلى السلوك القويم في التربية والنصح والإرشاد للذرية، والتصرف في الذرية بما بعود عليها بالنفع ليس الدنيوي فقط بل الدنيوي والأخروي معاً، وإلا عد ذلك الولي غاشاً لرعيته مستوجباً للعذاب، فإذ أدرك الآباء المسؤولية وعلموا أن بناتهم ليست سلعاً تباع وتشترى، وأن الأمانة ثقيلة فحينها يكون الضرر زائلاً بعون الله تعالى، أيضاً إرشاد المجتمع إلى دوره في الاحتساب على العابثين -وهم قلة- فمن أقدم على تزويج ابنته وهي صغيرة بحيث لا تحتمل الزواج والوطء فإن المجتمع يقوم بدور التوجيه والإرشاد لوليها، فإن استجاب وإلا كان للبنت والمجتمع الناصح حق الاحتساب عليه ورفع أمره إلى الجهات الرسمية التي تنظر في قضيته وأمره، أيضاً دور الجهات الرسمية في تأديب العابثين ومن يقدمون على تزويج الصغيرة التي لا تحتمل ذلك.
وفي الختام أسأل من الله تعالى جل في علاه أن يهدينا وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه وأن يبصرنا بعيوبنا، ويوفقنا لخدمة دينه وشريعته، والقيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وفق أركان وضوابط الشريعة، وهذا جهد مقل فما كان فيه من توفيق وصواب فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ أو خلل أو قصور فمن نفسي المقصرة والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
بحث مقدم للدورة السابعة لندوة تقوية الإيمان وزيادته
من 6-8/5/1431هـ الموافق 20-22/4/2010م
راجعه الدكتور/ قسطاس إبراهيم النعيمي
(1) موسوعة نضرة النعيم 3/539.
(2) إحياء علوم الدين 2/306.
(3) فيض القدير، 5/522.
(4) الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، 1/221.
(5) لسان العرب، 9/240، والنهاية في غريب الأثر، 3/216، ولسان العرب 9/240، وتفسير السعدي، ص202
(6) التعريفات للجرجاني، ص54، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، لسليمان بن عبد الرحمن الحقيل، ص 31.
(7) الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، 1/221.
(8) لسان العرب، 5/232، والنهاية في غريب الأثر، 5/114، والمفردات في غريب القرآن، 1/505، والتفسير الكبير، 20/82.
(9) التعريفات للجرجاني، ص54، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، لسليمان بن عبد الرحمن الحقيل، ص 31.
(10) فتح الباري، 10/448.
(11) النهاية في غريب الأثر، 3/216.
(12) النهاية في غريب الأثر، 5/114.
(13) أحكام القرآن للجصاص، 2/322.
(14) الاستقامة، 2/294.
(15) قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة للرحيلي، ص12-15، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، 79-82.
(16) تفسير البغوي، 2/224، وتفسير البيضاوي 3/84، وتفسير الثعالبي، 2/76.
(17) أحكام القرآن للجصاص، 2/315.
(18) إحياء علوم الدين، 2/307.
(19) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(20) أخرجه الطبراني المعجم الكبير، 10/146 برقم: 10268، قال الهيثمي: «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح»، مجمع الزوائد، 7/531 برقم: 12153.
(21) أخرجه ابن ماجه، 2/1327 برقم: 4004، وأحمد في المسند، 6/159 برقم: 25294، قال شعيب الأرنؤوط: «حسن لغيره»، ومثله قال الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، 2/288 برقم: 2325.
(22) أخرجه الترمذي، 4/468 برقم: 2169، وأحمد في المسند، 5/388 برقم: 23349، قال الألباني: «حسن لغيره»، صحيح الترغيب والترهيب، 2/286 برقم: 2313.
(23) أخرجه البخاري 1/31 برقم: 57.
(24) أخرجه ابن ماجه، 2/1332 برقم: 4017، قال الألباني :«صحيح»، صحيح سنن ابن ماجة، 2/370 برقم: 3244.
(25) شرح صحيح مسلم، 2/22، وأحكام القرآن للجصاص، 4/154، وإحياء علوم الدين، 2/306.
(26) إحياء علوم الدين، 2/307، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لبرهامي ص 5، ودروس صوتية للشيخ سلمان العودة قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية: www.islamweb.net، الدرس 250، ص 16.
(27) تفسير القرطبي، 4/165، وتفسير أبي السعود، 2/67، أحكام القرآن للجصاص، 2/315.
(28) تفسير الثعالبي 1/297، والتفسير الكبير، 8/145.
(29) تفسير أبي السعود، 2/68.
(30) انظر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله للحقيل، ص46-48.
(31) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(32) أخرجه أبو داود، 2/525 برقم: 4338, والترمذي، 5/256 برقم: 3057، وأحمد في المسند، 1/7 برقم: 29، قال الألباني: «صحيح»، صحيح الترغيب والترهيب, 2/286 برقم: 2317.
(33) أخرجه أبو داود، 2/525 برقم: 4338, انظر: صحيح الترغيب والترهيب, 2/286 برقم: 2317.
(34) غرائب القرآن ورغائب الفرقان، 2/227، وروضة الطالبين، 10/217، والأحكام السلطانية، 1/270.
(35) شرح صحيح مسلم، 2/23.
(36) شرح صحيح مسلم، 2/23.
(37) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص345.
(38) أحكام القرآن لابن العربي، 1/383.
(39) مجموع فتاوى ابن باز، 1/332، (30) جزءا، وحاجة البشر للأمر بالمعروف لابن جبرين، ص 18.
(40) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص63.
(41) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/230، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله ، ص 76.
(42) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/230، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله ، ص 72، 73.
(43) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/ 230، 231، ومجموع الفتاوى، 28/129، 130.
(44) أخرجه البخاري، 3/1194 برقم: 3101.
(45) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور ياسر بن حسين برهامي، ص 8، 9.
(46) أخرجه أبو داود، 2/546 برقم: 4403، والنسائي، 6/156 برقم: 3432، وابن ماجه، 1/658 برقم: 2041، قال الألباني: «صحيح»، صحيح سنن ابن ماجة، 1/347 برقم: 1660، وأخرجه البخاري موقوفاً على علي، 5/2017، وعند النسائي وابن ماجة: “وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق”.
(47) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/235، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 47، 48، لناصر خليل محمد أبو ديه، أطروحة ماجستير، 1424هـ، 2003م، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور ياسر بن حسين برهامي، ص 9.
(48) أخرجه أحمد ، 3/120 برقم: 12232، قال شعيب الأرنؤوط: «حديث صحيح, وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد».
(49) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 2/283 برقم: 1773، قال الألباني: «صحيح»، صحيح الترغيب والترهيب، 2/289.
(50) انظر: تفسير القرطبي، 4/47، وشرح النووي لصحيح مسلم، 2/23، والتفسير الكبير، 3/44.وإحياء علوم الدين، 2/312، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/ 236، 237، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 48-50.
(51) أخرجه البخاري، 3/1191 برقم: 3094.
(52) انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/73، ومجموع الفتاوى، 28/252، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/237، 239.
(53) إحياء علوم الدين 2/315، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 51، لناصر خليل محمد أبو ديه.
(54) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(55) الطرق الحكمية، ص345.
(56) التوقيف على مهمات التعاريف، ص 504، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 53.
(57) جامع العلوم والحكم، ص323، وانظر: روضة الطالبين، 10/221، وتفسير القرطبي، 6/253.
(58) أخرجه ابن ماجه، 1/659 برقم: 2045، قال الألباني: «صحيح» صحيح سنن ابن ماجة، 1/348 برقم: 1664.
(59) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(60) ذكر الحافظ ابن حجر بأنه أخرجه عبد بن حميد بسند صحيح، فتح الباري، 12/314.
(61) أحرجه ابن ماجه، 2/1328 برقم: 4008، وأحمد في المسند، 3/47 برقم: 11458، قال الألباني: «ضعيف»، ضعيف ابن ماجة، 1/322 برقم: 868، وفي رواية: “ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال يا رب رجوتك وفرقت من الناس”، أخرجه ابن ماجه، 2/1332 برقم: 4017، قال الألباني: «صحيح»، صحيح سنن ابن ماجة، 2/370.
(62) انظر: فتاوى السغدي، 2/702، و إحياء علوم الدين، 2/ 319،320.
(63) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 54، أطروحة ماجستير.
(64) الفروع، 2/37.
(65) إحياء علوم الدين، 2/320.
(66) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 55.
(67) إحياء علوم الدين، 2/322.
(68) إحياء علوم الدين، 2/323.
(69) مجموع الفتاوى، 22/191، والاستقامة، 1/330، وكتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، 28/126، وحاشية العدوي، 2/568.
(70) إعلام الموقعين 3/4، 5.
(71) إعلام الموقعين، 3/4، وانظر كلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، 28/129، 130.
(72) حاشية العدوي، 2/568.
(73) غاية البيان شرح زبد ابن رسلان ص21، والتاج والإكليل، 2/387، 387، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 56-58، أطروحة ماجستير.
(74) أخرجه أبو داود، 2/526 برقم: 4341، والترمذي، 5/257 برقم: 3058، وابن ماجه، 2/1330 برقم: 4014، قال الألباني: «ضعيف»، ضعيف ابن ماجة، 1/322 برقم: 869.
(75) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور: ياسر بن حسين برهامي، ص 24، 25.
(76) أخرجه البخاري، 3/1331 برقم: 3442، ومسلم، 3/1523 برقم: 1920.
(77) الأحكام السلطانية، ص271، وشرح النووي لصحيح مسلم، 2/23.
(78) الأحكام السلطانية، ص271
(79) مغني المحتاج، 4/211.
(80) شرح صحيح مسلم، 2/23.
(81) الفواكه الدواني، 2/299.
(82) شرح مختصر خليل، 3/110، وانظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 60.
(83) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور ياسر بن حسين برهامي، ص / 12، 13.
(84) إحياء علوم الدين، 2/327.
(85) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/102.
(86) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 62.
(87) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/103.
(88) الزواجر عن اقتراف الكبائر، 2/838.
(89) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر أبو ديه ص 62-63، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/262.
(90) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص 62-63، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/262.
(91) الآداب الشرعية، 1/476.
(92) إحياء علوم الدين، 2/318.
(93) إحياء علوم الدين، 2/318.
(94) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/262.
(95) نصاب الاحتساب، ص197.
(96) نصاب الاحتساب، ص282.
(97) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 64-65، أطروحة ماجستير.
(98) الأذكار،1ص250.
(99) الأذكار، ص256.
(100) إحياء علوم الدين، 2/322، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/263 ،264.
(101) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/263.
(102) الذمي: هو المعاهد الذي أمن على شروط استوثق منه بها وعلى جزيةٍ يؤديها، لسان العرب، 3/312، وتاج العروس، 32/205.
(103) الآداب الشرعية، 1/209، 210، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 65.
(104) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/264، 265.
(105) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/102، 103، والفروق مع هوامشه، 4/399، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/251، 252
(106) أخرجه البخاري، 6/2439 برقم: 6240.
(107) أخرجه مسلم، 4/2043 برقم: 2652.
(108) شرح صحيح مسلم، 16/202.
(109) مجموع الفتاوى، 8/178، 179.
(110) الآداب الشرعية، 1/279.
(111) إحياء علوم الدين، 2/324، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر أبو ديه ص 69.
(112) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 69،70.
(113) لقوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾[الطلاق:2].
(114) لقوله صلى الله عليه وسلم: “ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة”، أخرجه البخاري، 2/862 برقم: 2310، ومسلم، 4/1996 برقم: 2580.
(115) أخرجه أبو داود، 2/538 برقم: 4375، وأحمد في المسند، 6/181 برقم: 25513، قالا الألباني: «صحيح»، السلسلة الصحيحة، 2/231 برقم: 638، وذوي الهيئات: هم أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وعَثَراتهم: زلاتهم، عون المعبود، 12/25.
(116) أخرجه مسلم، 4/2074 برقم: 2699.
(117) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/160، 161.
(118) الآداب الشرعية، 1/276.
(119) غياث الأمم، ص135.
(120) الموافقات، 4/185، وإحياء علوم الدين، 2/327، والطرق الحكمية، ص402، والموسوعة الفقهية الكويتية، 17/252، 255.
(121) الفواكه الدواني، 2/299.
(122) الأحكام السلطانية ص283.
(123) تفسير القرطبي، 16/333، وتفسير السعدي، ص801.
(124) أخرجه مسلم، 1/96 برقم: 96.
(125) أخرجه البخاري، 1/17 برقم: 25، ومسلم، 1/53 برقم: 22.
(126) أخرجه البخاري، 2/934 برقم: 2498.
(127) أخرجه مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن، 3/64 برقم: 697، و البيهقي في السنن الكبرى، 8/326 برقم: 17352، قال الألباني: «ضعيف»، إرواء الغليل، 7/363، وأخرج الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بعد أن رجم الأسلمي فقال: “اجتنبوا هذه القاذورة التي نهى الله عنها، فمن ألم فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله؛ فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه كتاب الله عز و جل”، ثم قال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، أخرجه الحاكم في المستدرك، 4/272 برقم: 7615، انظر: السلسلة الصحيحة،2/267 برقم: 663.
(128) القوانين الفقهية، ص282.
(129) إحياء علوم الدين، 2/325.
(130) إحياء علوم الدين، 2/325.
(131) الآداب الشرعية، 1/279.
(132) الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/255، 256.
(133) مغني المحتاج، 4/211
(134) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه ص 73، 74، أطروحة ماجستير.
(135) الأحكام السلطانية، ص283، 284.
(136) أخرجه البخاري 5/ 2253 برقم: 5717، ومسلم 4/ 1985 برقم: 2563، عن أبي هريرة.
(137) شرح النووي على صحيح مسلم 16/118.
(138) انظر: الموسوعة الفقهية الكويتية، 17/256- 258.
(139) الموسوعة الفقهية الكويتية، 6/250.
(140) لا إنكار في مسائل الخلاف ل عبد السلام مقبل المجيدي، ص 122، 128.
(141) روضة الطالبين، 10/219، 220.
(142) شرح صحيح مسلم، 2/24.
(143) روضة الطالبين، 10/219، 220.
(144) لا إنكار في مسائل الخلاف لعبد السلام مقبل المجيدي، ص 123- 127.
(145) الأحكام السلطانية، ص271.
(146) إحياء علوم الدين، 2/325.
(147) أسنى المطالب في شرح روض الطالب، 4/180.
(148) لا إنكار في مسائل الخلاف لعبد السلام مقبل المجيدي، ص 59، 60.
(149) انظر: إعانة الطالبين، 4/182، وحاشية الجمل على شرح المنهج، 5/182، ونهاية المحتاج، 8/48.
(150) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص158.
(151) المنثور، 3/364.
(152) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/109.
(153) الفروق مع هوامشه، 4/438.
(154) إعلام الموقعين، 3/288.
(155) الفتاوى الكبرى، 3/181، 182، و 2/537، الفتاوى لمحمد بن عبد الوهاب، 1/33.
(156) السيل الجرار، 4/589.
(157) أخرجه البخاري، 4/1577 برقم: 4084.
(158) أخرجه البخاري، 2/578 برقم: 1517.
(159) أخرجه الترمذي، 3/185 برقم: 823، والنسائي، 5/152برقم: 2734، وأحمد في المسند، 1/174 برقم: 1503.
(160) أخرجه البخاري، 2/597 برقم: 1574.
(161) أخرجه الدارمي في السنن، 1/82 برقم: 214، قال حسين سليم أسد: «إسناده صحيح»، وانظر: مشكاة المصابيح تحقيق الألباني، 1/57 برقم: 269.
(162) تاريخ مدينة دمشق 51/385.
(163) قال: «الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي أكثره مخرج، ومنها : أني وجدت بعضهم يزعم أن بناء الخلاف بن أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله على هذه الأصول المذكورة في كتاب البزدوي ونحوه، وإنما الحق أن أكثرها أصول مخرجة على قولهم … وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة، وأنه لا تصح بها رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه» حجة الله البالغة, 1/345.
(164) الموافقات، 1/331.
(165) السيل الجرار، 3/218.
(166) السيل الجرار، 4/588، وانظر لهذه الأدلة: لا إنكار في مسائل الخلاف لعبد السلام مقبل المجيدي، ص 64-95.
(167) لا إنكار في مسائل الخلاف، ص 130.
(168) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(169) الموسوعة الفقهية الكويتية، 6/250، 251.
(170) إحياء علوم الدين، 2/315.
(171) إحياء علوم الدين، 2/331.
(172) مجموع الفتاوى، 29/294.
(173) الطنبور: من آلات الملاهي، وهو فنعول بضم الفاء، فارسي معرب، وإنما ضم حملا على باب عصفور، المصباح المنير، 2/368.
(174) الطرق الحكمية ص393.
(175) أخرجه البخاري، 4/1537 برقم: 3960، ومسلم، 3/1539 برقم: 1802، واللفظ لمسلم.
(176) حديث أخرجه البخاري، 4/1749 برقم: 4443، ومسلم، 3/1408 برقم: 1781.
(177) أخرجه الترمذي، 3/588 برقم: 1293.
(178) أخرجه أبو داود، 2/351 رقم: 3675، قال الألباني: «صحيح»، انظر: مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني، 2/331 رقم: 3649
(179) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لناصر خليل محمد أبو ديه، أطروحة ماجستير، ص 119.
(180) إحياء علوم الدين، 2/331.
(181) أخرجه مسلم، 1/69 برقم: 49.
(182) البحر الرائق، 8/142.
(183) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 121.
(184) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، ص 119، 120.
(185) إحياء علوم الدين، 2/332، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 122، نقلاً عن الكنز الأكبر، ص 262.
(186) أحكام القرآن للجصاص، 2/317.
(187) أحكام القرآن للجصاص، 2/317، 318.
(188) أحكام القرآن للجصاص، 2/318.
(189) إحياء علوم الدين، 2/332، 333.
(190) روضة الطالبين، 10/220.
(191) روضة الطالبين، 10/187.
(192) روضة الطالبين، 10/187.
(193) الفواكه الدواني، 2/299.
(194) الآداب الشرعية، 1/196.
(195) إحياء علوم الدين، 2/333.
(196) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 125.
(197) رواه البخاري، 6/2521 برقم: 6484، ومسلم، 3/1302 برقم: 1676.
(198) شرح صحيح مسلم، 12/229.
(199) شرح صحيح مسلم، 12/229.
(200) شرح صحيح مسلم، 12/229.
(201) التاج والإكليل، 6/277.
(202) مجموع الفتاوى، 14/472.
(203) مجموع الفتاوى، 28/128.
(204) إعلام الموقعين، 3/4.
(205) إحياء علوم الدين، 2/318.
(206) الآداب الشرعية، 1/196.
(207) رواه البخاري 6/ 2588 برقم: 6647، ومسلم 3/1469 برقم: 1709.
(208) رواه مسلم 3/1481 برقم: 1855.
(209) منهاج السنة النبوية 3/392، وفتاوى الأزهر 10/187، ومرقاة المفاتيح 7/230، وآل رسول الله وأولياؤه 1/127.
(210) رواه مسلم 3/ 1475 برقم: 1847.
(211) الإلمام بمنهج السلف في التعامل مع الحكام 1/31. بتصرف.
(212) الفقه الإسلامي وأدلته، 8/317.
(213) رواه الحاكم في المستدرك 3/215 برقم: 4884، والطبراني في الأوسط، 4/ 238، قال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، وانظر السلسلة الصحيحة للألباني، 1/716 برقم: 374.
(214) أحكام القرآن للجصاص، 2/320.
(215) المحلى، 9/ 361،362، وانظر: وانظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 131، 132.
(216) نيل الأوطار، 7/ 361، 362.
(217) نقله ناصر خليل محمد أبو ديه عن الدكتور محمد خير هيكل عن كتابه الجهاد والقتال في السياسة الشرعية، 1/127، ثم رجحه أبو ديه مع إردافه بالنقاط أ،ب،ج، انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أطروحة ماجستير، ص 132-135.
(218) رواه مسلم 3/1481 برقم: 1855.
(219) رواه مسلم 3/1480 برقم: 1854.
(220) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي نقلاً عنه، 12/229، ومابين[] من كلام النووي.
(221) فتح الباري، 13/8.
(222) أخرجه ابن حبان، 10/428 برقم: 4566، قال شعيب الأرنؤوط: «إسناده حسن».
(223) فتح الباري، 13/8.
(224) أخرجه أحمد ، 5/321 برقم: 22789، قال شعيب الأرنؤوط: «حديث صحيح وهذا إسناد حسن من أجل ابن ثوبان».
(225) مسند الشاميين، 1/141 برقم: 225.
(226) مجموع الفتاوى، 28/129.
(227) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل محمد أبو ديه، أطروحة ماجستير، ص 126-135.
(228) أضواء البيان 1/29، 30، ومرقاة المفاتيح 7/227.
(229) رواه البخاري 6/ 2588 برقم: 6647، ومسلم 3/1469 برقم: 1709.
(230) الشيخ عطية صقر، انظر: فتاوى الأزهر 10/187.
(231) أضواء البيان 3/450.
(232) شرح صحيح مسلم 12/229، وانظر: فتح الباري، 13/7، وأضواء البيان، 1/29
(233) رواه البخاري 5/ 2263 برقم: 5752.
(234) رواه مسلم 1/ 79 برقم: 60.
(235) أضواء البيان 1/30.
(236) رواه البخاري 6 / 2612 برقم: 6725، ومسلم 3/1469 برقم: 1839.
(237) رواه البخاري 6/2612 برقم: 6726، ومسلم 3/1469 برقم: 1840.
(238) رواه مسلم 3/ 1475 برقم: 1847.
(239) أخرجه البخاري 2 / 619 برقم: 1652، ومسلم، 3 / 1305 برقم: 1679.
(240) الفصل في الملل 4/133.
(241) أخرجه ابن حبان، 10/428 برقم: 4566، قال شعيب الأرنؤوط: «إسناده حسن».
(242) أخرجه أحمد ، 5/321 برقم: 22789، قال شعيب الأرنؤوط: «حديث صحيح وهذا إسناد حسن من أجل ابن ثوبان».
(243) رواه أحمد 3/321 برقم: 14481، قال الألباني: «صحيح لغيره» انظر: صحيح الترغيب والترهيب،2/ 268 برقم: 2242.
(244) انظر: الطغيان السياسي وسبل تغييره من المنظور القرآني ص314، 319 -321.
(245) أخرجه عبد الرزاق في المصنف 11/ 336 برقم: 20702.
(246) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، 8 / 165 برقم: 16447.
(247) رواه البخاري 6/ 2633 برقم: 6774، ومسلم 3/ 1469 برقم: 1709.
(248) رواه مسلم 1/ 69 برقم: 49.
(249) رواه ابن ماجه 2/ 1327 برقم: 4004، حسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/ 367 برقم: 3235.
(250) إحياء علوم الدين، 329، 330.
(251) انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل أبو ديه، ص137، نقلاً عن الكنز الأكبر، ص 237.
(252) إحياء علوم الدين، 2/330.
(253) انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل أبو ديه، ص138، نقلاً عن الكنز الأكبر، ص 239.
(254) إحياء علوم الدين، 2/330، والضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ص138، نقلاً عن الكنز الأكبر، ص 244.
(255) إحياء علوم الدين، 2/331.
(256) إحياء علوم الدين، 2/332.
(257) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل أبو ديه، ص 139، 140.
(258) الموسوعة الفقهية الكويتية، 6/251.
(259) فقه تغيير المنكر للدكتور محمود توفيق محمد سعد، موقع الإسلام: http://www.al-islam.com.
(260) لسان العرب، 5/ 250،252، وكتاب الكليات للكفومي، ص961.
(261) التوقيف على مهمات التعاريف، ص738.
(262) تفسير القرطبي، 19/66.
(263) تفسير ابن كثير، 4/442.
(264) تفسير السعدي، 1/895.
(265) تفسير القرطبي، 7/392.
(266) أخرجه البخاري، 4/1609 برقم: 4157.
(267) أخرجه البخاري، 4/1609 برقم: 4158.
(268) يحذيك: يعطيك، شرح النووي لصحيح مسلم 16/178.
(269) أخرجه البخاري 5/2104 برقم: 5214، ومسلم 4/ 2026 برقم: 2628.
(270) مجموع الفتاوى، 28/218.
(271) الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ص 141، 142، نقلاً عن الكنز الأكبر،ص 423.
(272) الآداب الشرعية، 1/247.
(273) النهاية في غريب الأثر، 5/244.
(274) أحكام القرآن للجصاص، 2/318.
(275) مجموع الفتاوى، 28/216، 217.
(276) مجموع الفتاوى، 28/206.
(277) انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل أبو ديه، ص 143.
(278) انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لناصر خليل أبو ديه، ص 143.
(279) الوسيط، 6/531.
(280) روضة الطالبين، 5/18.
(281) التشريع الجنائي في الإسلام، 2/63.
(282) التشريع الجنائي في الإسلام،2/64.
(283) النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر، 2/474.
(284) انظر: الضوابط الفقهية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 144، 145
(285) إحياء علوم الدين، 2/328.
(286) أخرجه الترمذي وقال: «حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم كرهوا أن يأخذ المؤذن على الأذان أجرا واستحبوا للمؤذن أن يحتسب في أذانه»، 1/409 برقم: 209، قال الألباني: «ورجاله كلهم ثقات إلا أن الحسن مدلس لكنه توبع»، الثمر المستطاب، 1/146.
(287) أخرجه أبو داود، 2/285 برقم: 3416، وابن ماجه، 2/730 برقم: 2157، وأحمد في المسند، 5/315 برقم: 22741، قال الإمام الألباني: «صحيح»، صحيح سنن ابن ماجة، 2/8 برقم: 1750.
(288) أخرجه البخاري، 4/1919 برقم: 4741، ومسلم، 2/1040 برقم: 1425، واللفظ للبخاري.
(289) أخرجه البخاري، 5/2166 برقم: 5405.
(290) الموسوعة الفقهية الكويتية، 6/251 ،252.
(291) سمعتهما من الشيخ فضل بن عبد الله مراد المدرس في جامعة الإيمان، وهما من نظمه.
(292) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 54 برقم: 17754، وانظر: السلسلة الصحيحة للإمام الألباني 8/95 برقم: 3088.
(293) الآداب الشرعية، 1/302.
(294) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، ص94، 95، نقلاً عن (من أخلاق الداعية) للشيخ سلمان العودة، ص48.
(295) أخرجه والبخاري، 2/544 برقم: 1425، ومسلم، 1/50 برقم: 19، واللفظ لمسلم.
(296) قواعد وضوابط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لسفر الحوالي، ص7.
(297) إحياء علوم الدين، 2/314، وانظر: قواعد مهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ضوء الكتاب والسنة، ص 42-55، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله، ص98.
(298) أخرجه البخاري 2 / 882 برقم: 2361.
(299) النصوص الشرعية الدالة على جواز الزواج المبكر:
قوله تعالى: ﴿وَالْلآئِي يَئَسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتِهِنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَالْلآئِي لِمْ يَحِضْنَ﴾[الطلاق:4]، فجعل سبحانه وتعالى للآئي لم يحضن -وهن الصغيرات- زواجاً وطلاقاً وعدة؛ إذ العدة لا تكون إلا بعد فراق، والفراق لا يكون إلا بعد زواج، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَاب لَكُمْ مِنْ الْنِّسَاءَ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾[النساء:3]، عن عروة بن الزبير أنه سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن هذه الآية فقالت: «يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق»، فقولها رضي الله عنها: «فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن» يدل على مشروعية زواج الصغيرة التي لم تبلغ، إذ لا يتم بعد البلوغ، وإنما اليتم ما كان قبل البلوغ، وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الْلآتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾[النساء:127]، عن عروة بن الزبير عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت في هذه الآية: «هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله، فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله، فيحبسها فنهاهم الله عن ذلك»,في رواية قالت: «أنزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشركه في ماله، فيرغب عنها أن يتزوجها، ويكره أن يزوجها غيره فيشركه في ماله، فيعضلها فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره»، حديث عائشة رضي الله عنها قالت: “تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين”.
وأما الإجماع: فقد انعقد على جواز تزويج الصغيرة البالغة، وأن الذي يتولى تزويجها أبوها، وزاد الشافعي وآخرون الجد من جهة الأب أيضاً، قال ابن قدامة: «أما البكر الصغيرة فلا خلاف فيها، قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن نكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوجها من كفء، ويجوز له تزويجها مع كراهيتها وامتناعها»، وقال ابن بطال: «أجمع العلماء أنه يجوز للآباء تزويج الصغار من بناتهم وإن كن في المهد إلاَّ أنه لا يجوز لأزواجهن البناء بهن إلاَّ إذا صلحن للوطء واحتملن الرجال وأحوالهن في ذلك مختلف في قدر خلقهن وطاقتهن»، فهنا تفريق بين أمرين: الأول: الزواج الذي يراد به العقد، والوطء.
وأما أعمال الصحابة: فالآثار الدالة على اشتهار الزواج المبكر بينهم من غير نكير كثيرة -فلم يكن ذلك خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يتوهمه بعض الناس بل هو عام له ولأمته- كتزوبج علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي صغيرة لم تبلغ، وزوج الزبير رضي الله عنه ابنة له صغيرة حين ولدت، قال الإمام الشافعي: «وزوج غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته صغيرة»، ثم إن التأخير في تزويج البنات في كثير من بلاد المسلمين إنما هو حادث ومخالف لما درج عليه عمل المسلمين لقرون طويلة، بسبب التغريب، ودخول القوانين الوضعية عليهم، مما أدى إلى تغير في المفاهيم والأعراف لدى شريحة كبيرة من الناس، ولا يصح مطلقًا أن نجعل الأعراف والتقاليد في بلدٍ ما هي المقياس فنقيس بها، ونعطل ما قد ثبت بالأدلة القاطعة، بل لقد تأخر تزويج البنات بعد سن البلوغ كثيراً في بعض بلاد المسلمين، مما نتج عنه انتشار السفور والفواحش، وظهور الانحراف في الخلق والدين بين الشباب، وعدم الاستقرار النفسي لديهم، لفقدهم السكن والمودة والعفة والإحصان، كما أن في التأخير تقليلاً لنسل الأمة، وهو مخالف لأمره صلى الله عليه وسلم، ومعارض لمكاثرته بأمته الأمم والأنبياء.
*من موقع جامعة الايمان في اليمن